بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه هشتاد و هفت
وذهب السيد الخوئي (قدس سره) الى تعين تقدم الحج ولا تصل النوبة الى المزاحمة كما هو مختار جماعة من الاعلام قال (قدس سره) في بيان مفصل عند قول صاحب العروة «اذا نذر قبل حصول الاستطاعة ان يزور الحسين (عليه السلام) في كل عرفة ثم حصلت لم يجب عليه الحج....»
«ونحوه ما لو نذر المبيت عند الحسين (عليه السلام) ليلة عرفة فاستطاع تلك السنة، او نذر ان يعطي الفقير كذا مقداراً او يصرفه في الزيارة او التعزية فحصل ما يكفي له او للحج.
وقد ذكر غير واحد من الفقهاء، بل المشهور بينهم ان ذلك مانع عن الاستطاعة، بل وكذا لو كان عليه واجب مطلق فوري قبل حصول الاستطاعة، ولم يمكن الجمع بينه وبين الحج، وعللوه بما ذكره في المتن من ان العذر الشرعي كالعقلي في المنع عن الوجوب.
وكانهم بنوا ذلك على ما اشتهر بينهم من ان القدرة المعتبرة في الحج قدرة شرعية بمعنى انه يعتبر في ملاكه انه لا يزاحمه واجب آخر، بحيث لو زوحم مع ما هو اضعف ملاكاً ولو بمراتب كثيرة قدم عليه، حتى انه لو توقف السير الى الحج على ترك رد السلام بحيث لو اراد التصدي للرد خرجت القافلة او تحركت الطائرة سقطت عنه فريضة الحج حينئذٍ، لان الاستطاعة المعتبرة فيها شرعية وفي رد السلام عقلية فتتقدم.
ولكن هذا المبنى بالرغم من تداوله على الألسن بمعزل عن التحقيق.
اذ الاستطاعة التي اعتبرها الشارع في وجوب الحج هي التي فسرت في الاخبار بالزاد والراحلة، وفي بعضها صحة البدن وتخلية السرب اي امن الطريق.
واما الزائد على ذلك بحيث لا يزاحمه اي واجب آخر المعبر عنه بالاستطاعة الشرعية في كلمات القوم فلم يقم عليه اي دليل.
اذاً، فالقدرة المعتبرة في الحج كالقدرة المعتبرة في سائر الواجبات، فاذا لم يتمكن المكلف من الجمع بينه وبين وجوب الوفاء بالنذر، فبطبيعة الحال تقع المزاحمة بينهما في مرحلة الامتثال كما في سائر الواجبين المتزاحمين فيرجع الى مرجحات هذا الباب.
ولكن الظاهر انه لا تصل النوبة الى المزاحمة بل يتعين تقدم الحج.
وتوضيحه:
ان وجوب الوفاء بالنذر ليس حكماً ابتدائياً مجعولاً من قبل الشارع، بل امضاء لما اوجبه الناذر على نفسه والتزم به فالزمه الله بما التزم كما التزم، نظير دليل الامضاء في باب المعاملات من العقود والايقاعات.
ومن الواضح ان الناذر لم يلتزم شيئاً على نفسه على سبيل الاطلاق، بل جعله مرتبطاً بالله تعالى، حيث قال: «لله علي» فالذي التزم به هو العمل الصالح لان يضاف الى المولى ويكون متعلقاً به مع قطع النظر عن دليل وجوب الوفاء. ومن ثم يعتبر في انعقاده رجحان المتعلق، والا فالرجحان المزبور لم يرد عليه دليل بالخصوص.
وما في بعض الكلمات من انه يعتبر ان لا يكون محللاً للحرام او محرماً للحلال لا دليل عليه، لان هذا انما ورد في ادلة الشروط بقوله: الا شرطاً خالف كتاب الله وسنة نبيه، ولم يرد في ادلة الوفاء بالنذر كما لا يخفى.
وكيفما كان فلا ينبغي التأمل في انه يعتبر في انعقاده رجحان متعلقه في حد نفسه ومع قطع النظر عن دليل الوفاء بان يكون فِعْلَ واجبٍ او مستحبٍ او تَركَ حرامٍ او مكروهٍ بحيث يكون صالحاً للارتباط والاضافة من المولى بمقتضى كونه الزاماً بما التزم حسبما عرفت.
ومن هذا البيان تعرف انه لا يكفي مجرد رجحان المتعلق في حد نفسه فحسب، بل ينبغي ان يكون راجحاً بقول مطلق تحفظاً على رعاية الارتباط والاضافة منه تعالى، فلا بد من ملاحظة ما يحتف به من الملابسات من ملزوم وملازمات، اذ لو استلزم الوفاء به ترك واجب او فعل محرم لم يكن ذلك العمل مرتبطاً ومضافاً الى المولي، لعدم صلاحية ما هو مبغوض له للاضافة اليه، وهذه الاضافة مطردة في غيره سبحانه ايضاً، فان من يأتي بعمل لاجل زيد وتكريماً له لابد وان يكون محبوباً له لا مبغوضاً يزجر عنه، نظير ان يقول لزيد: سأزورك في بيتك لأُسلّم عليك واكسّر اوانيك، فان هذه الزيارة المشتملة على الاضرار به مبغوضة له فكيف يمكن ان يقدم تكريماً وتشريفاً له.
وعليه، فالمبيت عند الحسين ليلة عرفة وفاء بالنذر وان كان راجحاً في حد نفسه حتى مع قطع النظر عن دليل الوفاء بالنذر الا انه من اجل استلزامه فوت الواجب الفعلي وهو الحج ـ الذي لم يكن مشروطاً الا بمجرد الزاد والراحلة الحاصلين حسب الفرض ـ، فهو غير مرتبط الى المولى، ولا يصلح للاضافة اليه بوجه، فلا يشمله دليل الوفاء بالنذر، ولا يكاد ينعقد مثل هذا النذر في حد نفسه.
نعم، لو نذر انه على تقدير ترك الحج الواجب عليه يبيت ليلة عرفة عند الحسين (عليه السلام) على سبيل الترتب ـ، لم يكن اي مانع حينئذٍ من انعقاده.
ضرورة انه بعد فرض تحقق المعصية للحج فالمبيت راجح حينئذٍ بقول مطلق، واما عكس ذلك الذي هو محل الكلام بان يبيت عنده (عليه السلام) حتى مع استطاعته وفعلية التكليف بالحج فهو غير منعقد لعدم صلاحيته للارتباط والاضافة بعد استلزام الوفاء ترك الواجب.
وبالجملة: فلا يكون مثل هذا النذر مزاحماً لوجوب الحج فضلاً عن ان يتقدم عليه، بل المتعين تقدم الحج لكشف الاستطاعة المتأخرة عن انحلال النذر وعدم كونه منعقداً من اول الامر.
نظير ما لو نذر ان يصوم كل جمعة فصادف ايام الحيض او يوم العيد او السفر ونحو ذلك من موانع الصوم، فان ذلك يكشف عن انحلال نذره وقد نطق به النص الخاص ايضاً.
والسر ما عرفت من ان مثل هذا الصوم الممنوع في الشرعية غير صالح للارتباط والاضافة اليه سبحانه.
ومنه تعرف الحال في بقية الامثلة والفروض المذكورة في المتن من نذر اعطاء الفقير كذا مقداراً، او صرف مقدار في الزيارة او التعزية، فحصل ما يكفيه لاحدهما، فان المتعين صرف المال في الحج والحكم بانحلال النذر حسبما عرفت.
وملحض الكلام في المقام:
ان وجوب الوفاء بالنذر بعد ان لم يكن جعلاً ابتدائياً، بل حكماً امضائياً والزاماً بما التزمه الناذر وافترضه على نفسه فيتبع في السعة والضيق كيفية جعل الناذر وبما انه جعل على نفسه شيئاً لله، فلا بد وان يكون المجعول شيئاً صالحاً للاناطة والارتباط والاضافة منه سبحانه وتعالى ليصدق انه التزم به لله، وحيث ان ما هو محرم بنفسه او مستلزم لترك واجب او فعل محرم فاقد لتلك الاضافة لكونه بحسب النتيجة مبغوضاً للمولى، وما هو مبغوض له لا يصلح للارتباط به، فلا جرم كان النذر المتعلق به منحلاً وغير منعقد في حد نفسه.
ومن ثم: لا ينعقد نذر السجدة المستوعبة لتمام الوقت كما بين الطلوعين او الاشتغال بقراءة القرآن من اول الزوال الى الغروب مستمراً، لان السجدة او القراءة وان كانتا راجحتين في نفسهما الا انه من اجل استلزام الوفاء بمثل هذا النذر ترك فريضة الوقت فهما يتصفان عندئذٍ بالمبغوضية الفعلية ولذلك لم ينعقد مثل هذا النذر بالضرورة.
وعليه فالنذر المتعقب بالاستطاعة محكوم بالانحلال في جميع الفروض المذكورة في المتن لانها بين ما يكون العمل به حراماً بنفسه كالمثالين الاخيرين حيث ان الاعطاء للفقير او الصرف في الزيارة او التعزية مصداق لتفويت الاستطاعة بعد حصولها، وهو محرم كما تقدم.
وبين ما هو مستلزم للحرام كزيارة الحسين ليلة عرفة المستلزمة لترك الحج فلا جرم تكشف الاستطاعة اللاحقة عن انحلال النذر وعدم انعقاده من اول الامر لقصور دليله عن الشمول للمقام فلا مزاحمة فضلاً عن ان يتقدم النذر بل المتقين الصرف في الحج حسبما عرفت.
ويؤيده ماذكرناه ويؤكده بل يدل عليه:
ان النذر لو كان مانعاً عن الاستطاعة لم يمكن مختصاً بزيارة الحسين (عليه السلام) ليلة عرفة ونحوها من الامثلة المذكورة في المتن، بل يشمل ما لو نذر ان يزور مسلم كل اسبوع او يذهب الى المسجد السهلة كل ليلة اربعاء او يصلي الفجر كل يوم او كل اسبوع في الحرم العلوي الشريف او في المسجد المجاور لبيته بل او في بيته، فان مناط المنع عام لجميع هذه الصور وحكم الامثال فيما يجوز وفيما لا يجوز سواء، فلو تم لعم وساغ لكل احد ان يدفع الحج عن نفسه بمثل هذا العذر المتيسر لكل احد وهو كما ترى، بل لعله مقطوع البطلان بضرورة الفقه.
والسر ما عرفت من انحلال النذر وكشف الاستطاعة المتاخرة عن عدم انعقاده من اول الامر كنذر صوم يوم صادف عيداً او حيضاً او سفراً علي ما تقدم.