بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه هشت
اما بالنسبة الي ما افاده اولاً:
« وفيه ان الملحوظ في الحكم الظاهري هو كل واحد من الوجوب والحرمة مستقلا، باعتبار ان كل واحد منهما مشكوك فيه، مع قطع النظر عن الاخر فيكون مفاد رفع الوجوب ظاهرا هو الترخيص في الترك.
ومفاد رفع الحرمة ظاهرا هو الترخيص في الفعل، فكيف يكون جعل الحكم الظاهري لغوا ؟ مع أنه لو كان عدم خلو المكلف من الفعل أو الترك موجبا للغوية الحكم الظاهري، لكان جعل الإباحة الظاهرية في غير المقام أيضا لغوا، وهو ظاهر الفساد.»
و لعل نظره (قدس سره) الي ان محذور اللغوية في جريان البراءة الشرعية محذور عام جار في جمع موارد البراءة لفرض حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان فيها و عدم لزوم الاحتياط بناءً عليه عند الكل. و الجواب هناك هو الجواب هنا.
و اجاب عما افاده ثانياً – و هو ما مر بقولنا مضافاً -.
« ان المورد قابل للتعبد بالنسبة إلى كل من الحكمين بخصوصه، فان القدرة على الوضع انما تلاحظ بالنسبة إلي كل من الوجوب والحرمة مستقلا لا إليهما معا، وحيث إن جعل الاحتياط بالنسبة إلى كل منهما بخصوصه امر ممكن: فلا محالة كان الرفع أيضا بهذا اللحاظ ممكنا.
وتوضيح ذلك: أن القدرة على كل واحد من الافعال المتضادة كافية في القدرة على ترك الجميع، ولا يعتبر فيها القدرة على فعل الجميع في عرض واحد، ألا ترى ان الانسان - مع عدم قدرته على ايجاد الافعال المتضادة في آن واحد - يقدر على ترك جميعها، وليس ذلك إلا من جهة قدرته على فعل كل واحد منها بخصوصه، ففي المقام وان لم يكن الشارع متمكنا من وضع الالزام بالفعل والترك معا، ولكنه متمكن من وضع الالزام بكل منهما بخصوصه، وذلك يكفي في قدرته على رفعهما معا، وحينئذ فلما كل كل واحد من الوجوب والحرمة مجهولا، كان مشمولا لأدلة البراءة، وتكون النتيجة هو الترخيص في كل من الفعل والترك. »[1]
هذا و اورد علي جريان البراءة في المقام المحقق الاصفهاني (قدس سره) بما حاصله:
ان ظاهر ادلة البراءة كونها في مقام معذورية الجهل و ارتفاعها بالعلم فما كان تنجزه وعدمه من ناحية العلم والجهل كان مشمولاً للغاية والمغيى وما كان من ناحية التمكن من الإمتثال وعدمه فلا ربط له بادلة البراءة، و ما نحن فيه من الثاني لعدم القصور في العلم، و انما القصور من جهة عدم التمكن من امتثال الالزام المعلوم.
و أاساس نظره (قدس سره) هو ان المناط في جريان البراءة معذورية الجهل، و ان المكلف ما دام جاهلاً بالحكم لكان معذوراً وغايته حصول العلم به، و هذه المعذورية لا موضوع لها في المقام اي دوران الامر بين المحذورين، لفرض العلم الاجمالي بالحكم فيه وانه لا يخلو من الوجوب او الحرمة، والعلم الاجمالي منجز للتكليف كالعلم التفصيلي وعليه فلا يجري في المقام عدم تنجز التكليف من ناحية الجهل ومعذريته، بل تمام البحث في المقام التمكن من الامتثال وعدمه، فان مع عدم تمكن المكلف من امتثال الالزام المعلوم بالعلم الاجمالي لا معني لجريان البراءة فيه، لانه بعد عدم امكان الامتثال لا معني لرفع التكليف.
و في المقام لا يتمكن المكلف الا من الموافقة الاحتمالية دون الموافقة القطعية فالقصور انما هو من جهة التمكن من الامتثال، و لا قصور في العلم بالتكليف حسب ما عرفت.[2]
و ربما يجاب عنه بما عرفت فيما اجاب به السيد الخوئي(قدس سره) عن المحقق النائيني (قدس سره):
بان عدم التمكن من الامتثال الذي هو اساس البحث في المقام عند المحقق الاصفهاني(قدس سره) انما هو بملاحظة الجامع المعلوم و هو الالزام، و اما بالنسبة الي كل واحد من الاحتمالين بخصوصه اعني احتمال الوجوب واحتمال الحرمة كان المكلف قادراً علي امتثاله، فتجري اصالة البراءة فيه للجهل به بخصوصه و ان كان الجامع معلوماً.
وأفاد سيدنا الاستاذ دفعاً لما اجيب به عن العلمين النائيني والاصفهاني:
«... ولكن هذا الايراد عليهما بدوي، إذ يمكن توجيه كلامهما بما يرتفع به الايراد فنقول:
انه بناء على أن النهي عبارة عن الزجر عن الفعل لا طلب الترك - كما يراه صاحب الكفاية - يكون مورد الوجوب والحرمة شيئا واحدا وهو الفعل. إذن فالجامع بين الوجوب والحرمة معلوم التعلق بالفعل، والفعل يعلم بورود الجامع بينهما عليه، ولنسمه الالزام - تبعا للاعلام -، فالالزام الجامع يعلم تفصيلا بتعلقه بالفعل. وإنما الشك في خصوصية الالزام من وجوب أو حرمة.
ولا يخفى عليك ان هذا الالزام لا أثر له عملا بعد تردده بين الوجوب والحرمة، فلا يكون سببا للتنجز ولا منشئا للمؤاخذة على المخالفة، لما عرفت من أنه مما لا يتمكن المكلف من موافقته ومخالفته العملية القطعية، ومما لا يخرج المكلف عن موافقته ومخالفته الاحتمالية. إذن فانطباق الالزام واقعا على أي الاحتمالين من الوجوب والحرمة لا أثر له.
وعليه، فان أريد اجراء البراءة من خصوصية الوجوب أو الحرمة. ففيه:
ان اجراء البراءة من كل منهما باعتبار جهة الالزام والكلفة التي فيه، وهي معلومة بالفرض.
وإن أريد إجراء البراءة بملاحظة الشك في انطباق الالزام المعلوم على الوجوب أو على الحرمة، نظير الشك في انطباق النجس المعلوم على أحد الإناءين. ففيه:
ان الانطباق الواقعي على كل من الحكمين إذا لم يكن بذي أثر - كما عرفت - فلا معنى لنفيه ورفعه بدليل البراءة مع الشك فيه، لأنه لا يمكن وضع الالزام.
وإن أريد اجراء البراءة بملاحظة الالزام المعلوم المتعلق بالفعل. ففيه:
أولا: انه معلوم تفصيلا.
وثانيا: انه مما لا يمكن جعل الاحتياط بالنسبة إليه ومما لا يتمكن من امتثاله.
وهذا البيان لا يتأتى بناء على كون النهي عبارة عن طلب الترك، لاختلاف متعلق الالزام المعلوم، إذ الوجوب والحرمة لا يردان على شئ واحد، فكل من الفعل والترك مشكوك الالزام، فقد يقال بجريان البراءة فيه لعدم العلم بالالزام في كل طرف، نظير تردد الوجوب بين تعلقه بالظهر والجمعة.
ولكن لا يمكن الالتزام بجريان البراءة حتى على هذا المبنى، وذلك لان الحكم بالبراءة شرعا انما هو بملاحظة جهة التعذير عن الواقع، وبملاك معذورية المكلف بالنسبة إلى الواقع المحتمل، وهذا إنما فيما كان احتمال التكليف قابلا لداعوية المكلف وتحريكه نحو المكلف به، بحيث يكون المكلف في حيرة منه وقلق واضطراب، فيؤمنه الشارع، أما إذا لم يكن الامر كذلك، بل كان المكلف آمنا لقصور المقتضي فلا معنى لتأمينه وتعذيره.
وما نحن فيه كذلك، لان احتمال كل من الحكمين بعد انضمامه واقترانه باحتمال الحكم المضاد له عملا لا يكون بذي أثر في نفس المكلف ولا يترتب عليه التحريك والداعوية، لان داعوية التكليف ومحركيته بلحاظ ما يترتب عليه من أثر حسن من تحصيل ثواب أو فرار عن عقاب أو حصول مصلحة أو دفع مفسدة، وإذا فرض تساوي الاحتمالين في الفعل لم يكن أحدهما محركا للمكلف لا محالة.
ومن هنا أمكننا ان نقول: بامتناع جعل مثل هذا الحكم واقعا، بناء على أن الحكم يتقوم بامكان الداعوية، إذ لا يمكن كل من الوجوب والحرمة أن يكون داعيا إلى متعلقه مع تساوي احتمالهما، فلا حكم واقعي أصلا، بل نلتزم بعدم الحكم واقعا، بناء على ما قربناه في حقيقة الحكم من أنه جعل ما يقتضى الداعوية، إذ لا اقتضاء في كل منهما للداعوية، فان عدم الداعوية راجع إلى قصور المقتضي لا لوجود المانع، إذ اقتضاء الحكم للداعوية باعتبار العلم أو احتمال ترتب الأثر الحسن عليه فإذا كان هذا الاحتمال مقرونا بعكسه كان المقتضي قاصرا، نظير العلم بثبوت مصلحة ومفسدة متساويتين في الفعل، فإنه لا تكون المصلحة في هذا الحال ذات اقتضاء للداعوية والتحريك. فانتبه.
أو فقل: ان التكليف ههنا لغو بعد عدم تأثيره الفعلي في المتعلق، ولو قلنا بان التكليف ما فيه اقتضاء الداعوية، فان جعل ما يقتضى الداعوية مع عدم انتهاءه إلى التأثير فعلا في متعلقه، فيكون محالا، والا لصح تعلق التكليف على هذا المنهج بغير المقدور، وهو مما لا يمكن الالتزام به.
ومن هنا يظهر انه لا مجال لاجراء البراءة العقلية في خصوص كل من الحكمين، إذ لا موضوع لها بعد خروج المورد عن مقسم التعذير والتنجيز.
[1]. البهسودي، مصباح الاصول تقرير البحث السيد الخوئي، ج2، ص329-330.
[2]. السيد الخوئي، أجود التقريرات، ج 2، ص236؛ نقلا من الشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم، منتقى الأصول تقرير البحث السيد محمد الروحاني، ج5، ص23