بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه شصت و هشت
وهذا ما قرره الشيخ (قدس سره) بطوله في تقريب الدليل العقلي، وأجاب عنه (قدس سره):
«اولاً:
منع تعلق تكليف غير القادر على تحصيل العلم إلا بما أدى إليه الطرق الغير العلمية المنصوبة له، فهو مكلف بالواقع بحسب تأدية هذه الطرق، لا بالواقع من حيث هو، ولا بمؤدى هذه الطرق من حيث هو حتى يلزم التصويب أو ما يشبهه، لأن ما ذكرناه هو المتحصل من ثبوت الأحكام الواقعية للعالم وغيره وثبوت التكليف بالعمل بالطرق، وتوضيحه في محله.
وحينئذ: فلا يكون ما شك في تحريمه مما هو مكلف به فعلا على تقدير حرمته واقعا.
وثانيا:
سلمنا التكليف الفعلي بالمحرمات الواقعية، إلا أن من المقرر في الشبهة المحصورة - كما سيجئ إن شاء الله تعالى - أنه إذا ثبت في المشتبهات المحصورة وجوب الاجتناب عن جملة منها لدليل آخر غير التكليف المتعلق بالمعلوم الإجمالي، اقتصر في الاجتناب على ذلك القدر، لاحتمال كون المعلوم الإجمالي هو هذا المقدار المعلوم حرمته تفصيلا.
فأصالة الحل في البعض الآخر غير معارضة بالمثل، سواء كان ذلك الدليل سابقا على العلم الإجمالي - كما إذا علم نجاسة أحد الإناءين تفصيلا فوقع قذرة في أحدهما المجهول، فإنه لا يجب الاجتناب عن الآخر، لأن حرمة أحدهما معلومة تفصيلا - أم كان لاحقا، كما في مثال الغنم المذكور، فإن العلم الإجمالي غير ثابت بعد العلم التفصيلي بحرمة بعضها بواسطة وجوب العمل بالبينة، وسيجئ توضيحه إن شاء الله تعالى، وما نحن فيه من هذا القبيل.»[1]
ومحصل ما افاده (قدس سره) في تقرير الوجه العقلي:
انا نعلم اجمالاً بوجود محرمات كثيرة في الشريعة، ويجب علينا بمقتضي قوله تعالي: «وما نهاكم عنه فانتهوا»، الخروج عن عهدة تركها علي وجه اليقين بالاجتناب، او اليقين بعدم العقاب.
لأن العلم الاجمالي يوجب اشتغال الذمة يقيناً وهو يستدعي الفراغ عن هذه المحرمات علي نحو اليقين.
وبعد المراجعة الي الادلة والاجتناب عما ترشدنا من المحرمات نشك في فراغ الذمة عن الاشتغال بالمحرمات المعلومة بالعلم الاجمالي، لانا نحتمل وجودها في غير دائرة الادلة في الشبهات، فيلزمنا الاجتناب عن كل ما يحتمل حرمته حتي ورد لنا الدليل علي حليته.
فإن قلت: ان مع الرجوع الي الطرق والامارات انما يحصل لنا العلم تفصيلاً بحرمة امور كثيرة، بحيث لا يبقي معه لنا العلم الاجمالي بوجود غيرها من المحرمات، وعليه فإن اشتغال الذمة بغير المحرمات المعلومة تفصيلاً بالادلة المذكورة غير متيقن، فلا وجه لوجوب الاحتياط.
قلت: ان الادلة المذكورة التي نراجعها اذا اوجب لنا العلم بالاحكام الواقعية فلا كلام في عدم بقاء اشتغال الذمة.
ولكن هذه الادلة لا توجب العلم بالاحكام الواقعية، بل لا يحصل منها الا العلم بالطريق، والحكم الظاهري وهو اعم من الحكم الواقعي، وعليه فإن مع الوقوف علي هذه الادلة لا يحصل لنا اكثر من العلم بمضامينها التي لا تكون اكثر من احكاماً ظاهرية ربما تصيب الواقع وربما لا تصيب.
وهذا لا يوجب انحصار المحرمات الواقعية في مضامينها، واحتمال بقائها خارجاً عن دائرة هذه المضامين لا دافع له، ومعه فتبقي الذمة مشغولة، وإذا لا يحصل لنا مع العمل بهذه المضامين اليقين بفراغها.
نعم بناءً علي مسلك السببية، وأن قيام الطريق هو السبب لانقلاب الواقع الي مضمونه، بحيث يكون هذه المضامين التي يحصل لنا العلم بها هو المكلف به دون الواقع، لتم حصول اليقين بفراغ الذمة عند العمل بمضامينها، ومعه لا وجه للاحتياط.
وأجاب عن هذا التقريب الشيخ (قدس سره) بما حاصله:
اولاً:
انا ندعي بأن من لا يقدر علي تحصيل العلم بالواقع، لا تكليف له غير ما يؤدي اليه الطرق غير العلمية.
وفي الواقع انه مكلف بالواقع بحسب تأديه هذه الطرق، ولا يكون مكلفاً بالواقع بما هو،
ولا مكلفاً بمؤدي هذه الطرق من حيث هي مع قطع النظر عن الواقع، بل انه مكلف بالواقع حسب تأدية هذه الطرق.
وعليه فإن المشتبه من حيث التحريم الخارجة عن دائرة هذه الطرق ليست مكلفاً به لنا حتي لو فرض حرمتها واقعاً.
وثانياً:
ان مع تسليم اننا مكلفون بالمحرمات الواقعية.
الا انه قد قرر في الشبهة المحصورة انه اذ اثبت لنا بمقتضي دليل ـ غير المعلوم بالعلم الاجمالي ـ وجوب الاجتناب عن بعض الاطراف، فإنه لا يجب الاجتناب عن البعض الاخر.
وذلك: لأنه يحتمل كون المعلوم الاجمالي هو القدر المعلوم حرمته، ولا يفرق بين كون ما دل علي وجوب الاجتناب عن البعض سابقاً او لاحقا، هذا ما افاده الشيخ (قدس سره) في تقريب الوجه الاول من دليل العقل.
[1]. الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج2، ص89-90.