الرابع - من الوجوه التي استدل بها للبرائة: دليل العقل-
قال الصاحب الكفاية:
« وأما العقل: فإنه قد استقل بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول، بعد الفحص واليأس عن الظفر بما كان حجة عليه، فإنهما بدونهما عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان، وهما قبيحان بشهادة الوجدان.
ولا يخفى أنه مع استقلاله بذلك، لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته، فلا يكون مجال ها هنا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، كي يتوهم أنها تكون بيانا، كما أنه مع احتماله لا حاجة إلى القاعدة، بل في صورة المصادفة استحق العقوبة على المخالفة ولو قيل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل.
وأما ضرر غير العقوبة، فهو وإن كان محتملا، إلا أن المتيقن منه فضلا عن محتمله ليس بواجب الدفع شرعا ولا عقلا، ضرورة عدم القبح في تحمل بعض المضار ببعض الدواعي عقلا وجوازه شرعا، مع أن احتمال الحرمة أو الوجوب لا يلازم احتمال المضرة، وإن كان ملازما لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة، لوضوح أن المصالح والمفاسد التي تكون مناطات الاحكام، وقد استقل العقل بحسن الأفعال التي تكون ذات المصالح وقبح ما كان ذات المفاسد، ليست براجعة إلى المنافع والمضار، وكثيرا ما يكون محتمل التكليف مأمون الضرر، نعم ربما تكون المنفعة أو المضرة مناطا للحكم شرعا وعقلا.
إن قلت: نعم، ولكن العقل يستقل بقبح الاقدام على ما لا تؤمن مفسدته، وأنه كالاقدام على ما علم مفسدته، كما استدل به شيخ الطائفة (قدس سره)، على أن الأشياء على الحظر أو الوقف.
قلت: استقلاله بذلك ممنوع، والسند شهادة الوجدان ومراجعة ديدن العقلاء من أهل الملل والأديان، حيث إنهم لا يحترزون مما لا تؤمن مفسدته، ولا يعاملون معه معاملة ما علم مفسدته، كيف ؟ وقد أذن الشارع بالاقدام عليه، ولا يكاد يأذن بارتكاب القبيح.»[1]
وحاصل ما افاده (قدس سره) امور:
الاول:
ان الحكم بواقعه ليس موضوعاً للتكليف على المكلف، ولا يكون محركاً له لا بعثاً ولا زجراً. فإن الطلب من المولى انما يقع دائماً بالنسبة الى التكليف الذي تم تنجيزه، لأن الانبعاث والانزجار لا يمكن حصولهما عن المكلف الا نحو ما تنجز عليه بالوصول، فالموضوع لاستحقاق العقاب هو التكليف الواصل، ولا يكون مخالفة التكليف الغير الواصل اليه هتكاً للمولى و لا ظلماً عليه ولا خروجاً عن ذي العبودية.
وعليه فإن تفويت غرض المولى قبيح عقلاً، ولكنه اذا كان الغرض واصلاً الى المكلف و تركه بحيث يستند التفويت اليه، وأما مع فرض عدم الوصول فلا يستند التفويت اليه وتتصف عقوبته بالقبح.
والمراد بالوصول تمكن المكلف من الوقوف عليه، بمعنى ان التكليف الواقعي تعلقت به ارادة المولى وأمره وكان بحيث لو فحص المكلف عنه على نحو المتعارف علم به ووقف عليه.
ثم ان البيان الموجب لتنجز الحكم الرافع لموضوع قبح العقاب بلا بيان لا ينحصر بالبيان الشرعي، بل ان كل ما يصلح لتنجز التكليف مثل حكم العقل او السيرة العقلائية غير المردوعة يكون بياناً رافعاً لموضوع القاعدة.
وايضاً ان البيان كما يتحقق بصدور الخطاب من المولى، كذلك فيما لا يمكن للمولى اصداره لوجه، فإنه يتحقق بالطريق الذي وضعه الشارع للتحفظ على اغراضه فيما كان له زيادة اهتمام على غرض من اغراضه، بحيث يريد التحفظ عليه حتى في حال جهل المكلف، فيجعل الطريق كايجاب الاحتياط في موارده، وهذا ايضاً يكون بياناً صالحاً لرفع موضوع قاعدة العقاب بلا بيان.
وبالجملة، فيما لا بيان له من اغراض المولى لا شرعاً ولا عقلا ولا عقلاءً بوجه من الوجوه، فإن العقل يستقل بقبح العقوبة على تركها.
وأفاد (قدس سره)، بأن هذا الحكم العقلي المستقل لشدة وضوحه قابل للادراك بشهادة الوجدان.
وقد اكد (قدس سره) على ان البيان لو صدر من المولى بوجه، او كان فيه ادراك عقلي او بناء عقلي، ولكن كان المكلف غافلاً عنه، انما يمنع عن العقوبة حسب ادراك العقل، اذا كان المكلف في صدد تحصيل الحجة بالفحص بالمقدار الممكن له، ويتعارف منه، فاذا لم يظفر بها بوجوهها واليأس عن الظفر بها فلا محالة لا يكفي البيان الصادر، والحجة الواقعية المفروض عدم امكان المكلف للوصول اليه للمنع عن قبح العقاب، فيستقل العقل بقبحه.
الثاني:
ان للعقل ادراك اخر، وهو لزوم دفع الضرر المحتمل. فإذا لم يتمكن المكلف من الظفر بما دل على غرض المولى ويئس عن الظفر به، فإنه لا يرفع احتمال وجود الغرض، ومن المعلوم ان معه يكون تفويت الغرض المحتمل ملازماً لاحتمال العقوبة، والعقوبة ضرر على المكلف، والعقل يحكم بلزم دفعه.
وبالجملة: لا اثر لجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان، لأن احتمال العقوبة والضرر الجائي من ناحية احتمال وجود الغرض اللازم دفعه، بمقتضى حكم العقل بيان يرفع موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وقد دفع هذه الشبهة صاحب الكفاية (قدس سره) بوجهين:
1 - ان مع جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا يبقى موضوع لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل. ومراده (قدس سره):
ان مع جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان، انما يحصل للمكلف العلم بعدم العقاب، فيما ليس فيه ما يصلح لبيانه، اي البيان الواصل، ومع حصول هذا العلم بمقتضى القاعدة، لا يحتمل الحرمة حتى يوجب احتماله احتمال العقوبة.
وبعبارة واضحة: ان قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل تشمل على صغرى، وهي ان احتمال الحرمة يستلزم احتمال العقوبة، وكبرى وهي: ان كلما يحتمل فيه العقوبة يجب دفعه، فيجب دفع احتمال الحرمة، ومدعى صاحب الكفاية (قدس سره) انه لا يتحقق الصغرى للقاعدة المزبورة مع جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان. لأن بها تنتفي الصغرى وهي احتمال الحرمة.
2 - انه لو احتمل المكلف العقوبة في ارتكاب فعل – المفروض عدم كونه عالماً بحرمته – وكان في الواقع حراماً، فإنه يعاقب على مخالفة التكليف الالزامي المحتمل، وهي الحرمة في المقام، حتى لو لم نقل بوجوب دفع الضرر المحتمل.
ومراده (قدس سره):
ان استحقاق المؤاخذة عند احتمال الحكم امر ثابت. لا محتمل، وذلك لأن مع غمض العين عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان، يلزم على المكلف رعاية الواقع المحتمل.
وببيان اخر: انه كلما احتمل المكلف وجود غرض للمولى لزمه التحفظ عليه، فلو وقع منه تفويت هذا الغرض المحتمل، وكان الاحتمال المذكور مطابقاً للواقع، فإنه يستحق المؤاخذة لتفويته الغرض.
وهذا لا يبتنى على ثبوت قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل، بمعنى ان احتمال الغرض والحكم منجز ما لم يصدر من المولى المؤمن بالنسبة اليه. بلا فرق بين ثبوت قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل وبين عدم ثبوته.
وقاعدة قبح العقاب بلا بيان مؤمّن عقلي، جارية في كل مورد يحتمل فيه التكليف، بلا اي دخل لقاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل فيه.
[1]. الآخوند الخراساني، كفاية الاصول، ص 343 – 344.