بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه دو
اما الاجماع – على البرائة في الشبهات التحريمية
قال صاحب الكفاية:
«وأما الاجماع: فقد نقل على البراءة، إلا أنه موهون، ولو قيل باعتبار الاجماع المنقولة في الجملة، فإن تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل، ومن واضح النقل عليه دليل، بعيد جدا.»[1]
وظاهر حكمه بالوهن ان الاجماع المذكور مع فرض تماميته وتحققه، فإن منشأه حكم العقل بالبرائة في مشتبه الحرمة والمنع، ومع غمض العين عنه بأي وجه، فالأخبار الواردة في المقام الدالة عليها، فليزم ان يكون البحث في المنشأ والسبب دون المسبب، والحاصل مع ما اشار اليه من الاشكال في اعتبار المنقول منه.
اما الشيخ (قدس سره) فقد افاد لتقرير الاجماع وجهين:
قال: «اما الاجماع: فتقريره من وجهين:
الاول: دعوى اجماع العلماء كلهم من المجتهدين والاخباريين على ان الحكم فيما لم يرد فيه دليل عقلي او نقلي على تحريمه من حيث هو، ولا على تحريمه من حيث انه مجهول الحكم هي البرائة وعدم العقاب على الفعل.»[2]
وأورد على هذا الوجه بمثل ما نقلناه عن صاحب الكفاية، ولعله (قدس سره) اعتمد على هذا الاشكال من الشيخ في دفع دليل الاجماع.
قال الشيخ (قدس سره): «وهذا الوجه لا ينفع الا بعد عدم تمامية ما ذكر من الدليل العقلي والنقلي للحظر والاحتياط، فهو نظير حكم العقل الآتي.»
وأساس نظره (قدس سره):
انه لا شبهة في اتفاقهم كلاً وطراً في جريان البرائة في ما لم يرد فيه دليل على المنع والتحريم، بلا فرق بين ورود الدليل على المنع فيه بما هو من حيث هو، وبين ورود الدليل عليه لا بما هو بل من حيث انه مجهول الحكم.
ويشترك في ذلك الأصولي والاخباري، حيث ان الاخباري يدعي ثبوت الدليل على الاشتغال في مجهول الحكم على نحو العموم وبما هو مجهول الحكم، ومع فرض عدم ثبوت الدليل المذكور فالوجه فيه البرائة.
فأورد على هذا التقرير بأن مع تمامية الدليل العقلي والنقلي على الحظر والاشتغال عند الاخباري فلا وجه لهذا التقرير للاجماع على البرائة عندهم، وكذلك الاصولي فإنه يلتزم بالبرائة اذا لم يتم الدليل على الاحتياط في مجهول الحكم، وعليه فإن الاصل الاولي وإن كان يقتضي البرائة فيه، الا انه بعد ورود الدليل على الاحتياط لا يبقى له موضوع نظير حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، فإنه لا موضوع له فيما ورد الدليل على الاحتياط لكونه بياناً.
ويمكن ان يكون وجه حكم صاحب الكفاية بوهن الاجماع في المقام لهذا البيان من الشيخ (قدس سره).
الا ان اساس كلام الكفاية ـ كما مر ـ ان مع قيام الدليل عقلاً ونقلاً على البرائة في مجهول الحكم، يستبعد جداً تحقق الاجماع التعبدي النافع لنا في المسألة على البرائة، لأن الاتفاق المذكور لو تم لكان مستنداً على حكم العقل، وكذا حكم النقل المستفاد من الاخبار الكثيرة، فلا وقع عليه، ويلزم البحث في المدرك والاصل.
ثم ان الشيخ (قدس سره) ذكر تقريراً آخرا للاجماع قال:
«الثاني: دعوى الاجماع على ان الحكم ـ فيما لم يرد دليل على تحريمه من حيث هو ـ هو عدم وجوب الاحتياط وجواز الارتكاب.»[3]
والفرق بين هذا الوجه وسابقه هو ان الحكم في الوجه السابق البرائة في مجهول الحكم اذا لم يرد دليل على تحريمه من حيث هو او من حيث انه مجهول الحكم، وفي هذا الوجه ان الحكم فيما لم يرد دليل على تحريمه من حيث هو لا من حيث انه مجهول الحكم، فإنه لا تعرض له الى هذا الحيثية اي مجهول الحكم، هو عدم وجوب الاحتياط.
كما يفرق بينه وبين سابقه بأن الحكم فيه هو عدم وجوب الاحتياط بخلاف سابقه، حيث ان الحكم فيه البرائة، ونعلم ان مع الحكم بالبرائة في مجهول الحكم، فإن مع قيام الدليل على وجوب الاحتياط في مشتبه الحكم او مجهوله يرفع موضوع البرائة ولا سبيل اليه فيكون محكوماً بأدلة الاحتياط، ولكن في هذا التقرير ان الحكم هو عدم وجوب الاحتياط، فهو دليل في قبال ادلة وجوب الاحتياط ويعارضها، ومعه ينبغي الدقة فيه، ولا يتم الالتزام بالاحتياط في مشتبه الحكم الا بعد رد هذا الدليل، وهذا الوجه لم يتعرض له صاحب الكفاية (قدس سره).
هذا والكلام هنا في تحصيل هذا الاجماع.
قال الشيخ (قدس سره) في هذا المقام:
«و تحصيل الإجماع بهذا النحو من وجوه:
الأوّل: ملاحظة فتاوى العلماء في موارد الفقه:
فإنّك لا تكاد تجد من زمان المحدّثين إلى زمان أرباب التصنيف في الفتوى من يعتمد على حرمة شيء من الأفعال بمجرّد الاحتياط.
نعم، ربما يذكرونه في طيّ الاستدلال في جميع الموارد، حتّى في الشبهة الوجوبيّة التي اعترف القائلون بالاحتياط هنا بعدم وجوبه فيها.
و لا بأس بالاشارة إلى من وجدنا في كلماتهم ما هو ظاهر في هذا القول.
فمنهم: ثقة الإسلام الكلينيّ (قدّس سرّه)؛ حيث صرّح في ديباجة الكافي:
بأنّ الحكم في ما اختلف فيه الأخبار التخيير ، و لم يلزم الاحتياط مع ما ورد من الأخبار بوجوب الاحتياط في ما تعارض فيه النصّان و ما لم يرد فيه نصّ بوجوبه في خصوص ما لا نصّ فيه.
فالظاهر: أنّ كلّ من قال بعدم وجوب الاحتياط هناك قال به هنا.
و منهم: الصدوق؛ فإنّه قال: اعتقادنا أنّ الأشياء على الإباحة حتّى يرد النهي .
و يظهر من هذا موافقة والده و مشايخه؛ لأنّه لا يعبّر بمثل هذه العبارة مع مخالفته لهم، بل ربما يقول: «الذي أعتقده و افتي به»، و استظهر من عبارته هذه: أنّه من دين الاماميّة .
و أمّا السيّدان: فقد صرّحا باستقلال العقل بإباحة ما لا طريق إلى كونه مفسدة و صرّحا أيضا في مسألة العمل بخبر الواحد: أنّه متى فرضنا عدم الدليل على حكم الواقعة رجعنا فيها إلى حكم العقل.
و أمّا الشيخ (قدّس سرّه): فإنّه و إن ذهب وفاقا لشيخه المفيد (قدّس سرّه) إلى أنّ الأصل في الأشياء من طريق العقل الوقف ، إلاّ أنّه صرّح في العدة:
بأنّ حكم الأشياء من طريق العقل و إن كان هو الوقف، لكنه لا يمتنع أن يدلّ دليل سمعيّ على أنّ الأشياء على الإباحة بعد أن كانت على الوقف، بل عندنا الأمر كذلك و إليه نذهب، انتهى.
[1]. الآخوند الخراساني، كفاية الاصول، ص 343.
[2]. الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج2، ص 50.
[3]. الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج2، ص 51.