بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه چهل و چهار
وبالجملة، لو قلنا بهذه الملازمة فإن نفي العلية يلازم نفي الاستحقاق، وعليه يصح الاستدلال بالآية على البرائة.
ولكن الاستدلال بها على التقريب المذكور استدلال جدلي لأنه انما يثبت به المدعى باعتقاد الاخباري، وليس استدلالاً حقيقاً ليفيد على جميع المباني.
فإن الاصولي حيث لا يلتزم بالملازمة المذكورة فلا ينفعه الاستدلال بالتقريب المذكور.
هذا مع انه لا وجه لالتزام الاخباريين بهذه الملازمة، وذلك لأن مشتبهة الحكم من الوجوب او الحرمة ليس بأعظم عنده من المحرم القطعي، ولا ملازمة بين فعلية العقاب واستحقاقه في فعل الحرام او ترك الواجب المعلومين، لامكان المغفرة وشمول الرحمة فكيف بالمشتبه.
وهذا الجواب اساسه ما افاده صاحب الفصول (قدس سره) بقوله (قدس سره): ويشكل بأن نفي التعذيب لا يدل على نفي الوجوب والتحريم الجواز الاستحقاق والعفو، وناظر الى ما افاده الشيخ في المقام بقوله: وربما يورد التناقض.
وأورد على الاستدلال بها بوجوه عديدة:
الأول: انها تختص بالعذاب الدنيوي، فلا ظهور لها في في ما نحن فيه من نفي عذاب الآخرة . الثاني: انها تتكفل الحكاية عن عذاب الأمم السابقة، وانه لم يكن يحصل الانقياد لقول الرسول، فلا ربط لها بما نحن فيه . والوجه فيه هو ما يظهر من لفظ: " كنا " في كونه حكاية عن الفعل في الزمان الماضي .
الثالث: ان غاية ما تتكفله هو نفي العذاب الفعلي، وهو لا يلازم عدم الاستحقاق لامكان أن يكون منشؤه - مع تحقق الاستحقاق - هو المنة على العباد واللطف بهم، ومركز البحث بين الأخباريين والأصوليين هو الاستحقاق وعدمه لا ثبوت العذاب وعدمه . وهذا الايراد لصاحب الكفاية " رحمه الله ".
والذي نراه: ان الآية الشريفة وافية بالمدعى، وانه لا وقع لجميع هذه الايرادات .
وذلك لان ما قبل الآية هو قوله تعالى: ( وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا . . ) .
ومن الواضح ان ظاهر هذه الفقرات المتعددة أنها لبيان ان الطريقة المشروعة في مقام العذاب والثواب وان العذاب لا يكون الا على طبق الموازين العقلائية، ولذا لا تزر وازرة وزر أخرى، والهداية للنفس والضلال عليها، فتكون ظاهرة في نفي العقاب عند عدم الحجة لأنه على خلاف الموازين وان تقيده بقيام الحجة مما تقتضيه الموازين فنفي العذاب، وإن كان في حد نفسه أعم من نفي الاستحقاق، لكنه في المقام ظاهر في أن منشأه هو عدم الاستحقاق .
وبتوضيح آخر نقول: ان قوله تعالى: ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) لا ظهور له في إرادة الزمان الماضي عن وقت التكلم، بل هو ظاهر في إرادة الماضي منه بالنسبة إلى زمان بعثة الرسول وقيام الحجة، فلا عذاب قبلها، فتكون الآية ظاهرة في بيان ما هو شأن الله تعالى وسنته في باب العذاب، وأنه ليس من شأنه العذاب قبل قيام الحجة.
ولو استشكل في ظهور الآية في ذلك في حد نفسها، فالقرينة على هذا الظهور ما يظهر من صدر الآية الكريمة الذي نقلناه من بيان الطريقة العادلة لثبوت العقاب على الانسان، وعدم تخطي الموازين العقلائية في ذلك، وانها في مقام ما يقتضي العدل . هذا مع أن العذاب الدنيوي لا يرتبط بقيام الحجة، إذ هو يعم الصالح والطالح والكبير والصغير والرضيع . فتكون الآية
وعليه، فلا اختصاص لها بالعذاب الدنيوي، ولا نظر لها إلى خصوص الأمم السابقة، كما انها تتكفل نفي الاستحقاق لا نفي الفعلية فقط . ولو كابرت في القول ولم تقتنع بما ذكرناه وقلت: ان " كنا " ظاهر في الزمان الماضي عن وقت التكلم، فتتكفل الآية بيان حال الأمم السابقة بالنسبة إلى العذاب الدنيوي خاصة .
فلا يضر الاستدلال بها، وذلك لان الآية الشريفة على هذا تتكفل بيان ان العذاب الدنيوي منوط بقيام الحجة .
وهذا مما لا يمكن الالتزام به على إطلاقه، لان العذاب الدنيوي قد يشمل من هو مكتمل الايمان، ولذا نجد المؤمنين كثيري المحن والمصائب، كما قد يشمل من لا يتصور في حقه قيام الحجة كالأطفال والرضع والمجانين . إذن فتعليق العذاب على قيام الحجة لا بد أن يخصص بالعذاب الوارد على المعذب بعنوان الجزاء والعقاب، فإنه الذي يصح ان يناط بقيام الحجة، وإلا فغيره من أنواع العذاب لا تناط بقيام الحجة، بل تحصل لمصالح نوعية أو شخصية . وإذا حملت الآية - تصحيحا لمدلولها - على إناطة المجازاة بالعذاب الدنيوي على قيام الحجة، دلت على إناطة استحقاق العذاب الأخروي بقيام الحجة بالأولوية - كما قيل -، لأنه إذا فرض ان استحقاق العقاب القليل نسبتا يتوقف.
والمتحصل: ان الآية ظاهرة عرفا في نفي الاستحقاق بدون قيام الحجة، وان عدم العذاب فيها لاجل عدم الاستحقاق . ولو التزم بأنها ظاهرة في نفي فعلية العذاب فقط من دون ظهور في نفي الاستحقاق، فهل تصلح للاستدلال أو لا ؟
قد يقال: بان الخصم يدعي الملازمة بين نفي فعلية العقاب ونفي استحقاقه، فتكون الآية ردا على الخصم الذي يدعي استحقاق العقاب على ارتكاب الشبهة . وناقشه صاحب الكفاية: بان الاستدلال بالآية يكون جدليا لا برهانيا يطلب فيه اليقين بالمطلب .
هذا مع وضوح منع الملازمة، لان الملازمة لو ثبتت بين نفي فعلية العقاب ونفي استحقاقه لكانت هناك ملازمة بين الاستحقاق والفعلية - لأنه لو ثبت الاستحقاق - . ولم يتحقق العقاب، لكان ذلك خلف الملازمة بين عدم العقاب وعدم الاستحقاق - . الواضح انه لا يدعي أحد ثبوت الملازمة بين استحقاق العقاب وفعليته، إذ ليست الشبهة بأهم من نفس المحرم المعلوم، مع أن الوعيد بالعقاب عليه قد لا يلازم فعليته لتوبة أو شفاعة أو غير ذلك .
أقول: إن عمدة ما يستدل به الأخباريون على مدعاهم الروايات الامرة بالوقوف عند الشبهة تورعا عن الاقتحام في الهلكة وتجنبا عن الوقوع فيها، الذي هو ظاهر في ثبوت احتمال الهلكة والعقاب في كل شبهة .
وإذا بطل هذا الدليل فلا محيص عن القول بالبراءة . وعليه، فنقول: أن الآية إذا دلت على نفي فعلية العقاب كانت منافية لمفاد روايات الوقوف عند الشبهة، إذ لا يجتمع احتمال الهلكة مع عدم فعلية العقاب .
ومقتضى ذلك اما تخصيص الروايات إن كانت الآية أخص مطلقا منها . أو طرحها إن كانت النسبة هي العموم من وجه لأنها روايات مخالفة للكتاب . فالآية الشريفة كما هي صالحة لالزام الخصم، كذلك هي صالحة لرد دعواه في نفسها، لعدم الدليل عليها مع تسليم دلالة الآية .
ولعل نظر الشيخ ( رحمه الله ) في دعوى الملازمة بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق إلى دعوى الملازمة في خصوص ما نحن فيه بلحاظ مقام الاثبات، وإنه ان قام الدليل على نفي الفعلية فقد دل على نفي الاستحقاق لعدم الدليل على الاستحقاق سوى ما هو ظاهر في فعلية العقاب المنفي بالآية الشريفة، فلا يكون الاستدلال بالآية حينئذ جدليا، كما لا يدعى الملازمة في مقام الثبوت كي يدفع بما جاء في الكفاية من نفي الملازمة . فتدبر.
هذا ولكن الآية إنما تصلح للاستدلال ورد الخصم بناء على أن يكون استدلال الخصم بروايات الوقوف عند الشبهة بالتقريب المتقدم .
أما بناء على أن يكون استدلالهم بدعوى ظهور النصوص في وجوب الاحتياط والتوقف، وأن قوله: " فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة "، لبيان وجوب الوقوف بالطريقة المألوفة في مقام بيان الواجبات باثبات العقاب على تركها وبيان المحرمات باثباته على الفعل فيكون الاستعمال كناية عن وجوب التوقف وحرمة الاقتحام، لا لبيان احتمال الهلكة في الشبهة ويكون وجوب التوقف ارشاديا كما هو الحال على التقريب الأول.
بناء على هذا التقريب تكون اخبار الاحتياط وإرادة على الآية الشريفة، لأنها تتكفل بيان الحكم الواقعي وإقامة الحجة عليه .
ولعله إلى ذلك أشار الشيخ فيما ذكره من أن هذه الآيات تكون مورودا لدليل الاحتياط لو تم، وتكون نسبتها له نسبة الأصل إلى الدليل.[1]
[1] . الشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم، منتقي الاصول تقريرات البحث السيد محمد الروحاني، ج4، ص372-377.