بسم الله الرحمن الرحیم
جلسه بیست و دوم
ثم ان الشيخ بعد بيان ما مر منه في تقريب دلالة موثقة عمار افاد:
«ثم لا فرق في مفاد الرواية بين الموضوع الخارجي الذي يشك في طهارته من حيث الشبهة في حكم نوعه ، وبين الموضوع الخارجي المشكوك طهارته من حيث اشتباه الموضوع الخارجي .
فعلم مما ذكرنا :
أنه لا وجه لما ذكره صاحب القوانين : من امتناع إرادة المعاني الثلاثة من الرواية - أعني : قاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية ، وفي الشبهة الموضوعية ، واستصحاب الطهارة - ، إذ لا مانع عن إرادة الجامع بين الأولين ، أعني : قاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية والموضوعية .
نعم :
إرادة القاعدة والاستصحاب معا يوجب استعمال اللفظ في معنيين ، لما عرفت أن المقصود في القاعدة مجرد إثبات الطهارة في المشكوك ، وفي الاستصحاب خصوص إبقائها في معلوم الطهارة سابقا .
والجامع بينهما غير موجود ، فيلزم ما ذكرنا . والفرق بينهما ظاهر ، نظير الفرق بين قاعدة البراءة واستصحابها ، ولا جامع بينهما .
وقد خفي ذلك على بعض المعاصرين (ومراده منه صاحب الفصول قدس سره)، فزعم جواز إرادة القاعدة والاستصحاب معا ، وأنكر ذلك على صاحب القوانين فقال : إن الرواية تدل على أصلين :
أحدهما : أن الحكم الأولي للأشياء ظاهرا هي الطهارة مع عدم العلم بالنجاسة ، وهذا لا تعلق له بمسألة الاستصحاب .
الثاني : أن هذا الحكم مستمر إلى زمن العلم بالنجاسة ، وهذا من موارد الاستصحاب وجزئياته ، انتهى .
أقول :
ليت شعري ما المشار إليه بقوله : " هذا الحكم مستمر إلى زمن العلم بالنجاسة " ؟
فإن كان :
هو الحكم المستفاد من الأصل الأولي ، فليس استمراره ظاهرا ولا واقعا مغيا بزمان العلم بالنجاسة ، بل هو مستمر إلى زمن نسخ هذا الحكم في الشريعة .
مع :
أن قوله : " حتى تعلم " إذا جعل من توابع الحكم الأول الذي هو الموضوع للحكم الثاني ، فمن أين يصير الثاني مغيا به ؟ ! إذ لا يعقل كون شئ في استعمال واحد غاية لحكم ولحكم آخر يكون الحكم الأول المغيا موضوعا له .
وإن كان :
هو الحكم الواقعي المعلوم - يعني أن الطهارة إذا ثبتت واقعا في زمان ، فهو مستمر في الظاهر إلى زمن العلم بالنجاسة – فيكون الكلام مسوقا لبيان الاستمرار الظاهري فيما علم ثبوت الطهارة له واقعا في زمان ، فأين هذا من بيان قاعدة الطهارة من حيث هي للشئ المشكوك من حيث هو مشكوك ؟ !
ومنشأ الاشتباه في هذا المقام :
ملاحظة عموم القاعدة لمورد الاستصحاب ، فيتخيل أن الرواية تدل على الاستصحاب ، وقد عرفت أن دلالة الرواية على طهارة مستصحب الطهارة غير دلالتها على اعتبار استصحاب الطهارة ، وإلا فقد أشرنا إلى أن القاعدة تشمل مستصحب النجاسة أيضا ، كما سيجئ .
ونظير ذلك ما صنعه صاحب الوافية ، حيث ذكر روايات " أصالة الحل " الواردة في مشتبه الحكم أو الموضوع في هذا المقام .
ثم على هذا ، كان ينبغي ذكر أدلة أصالة البراءة ، لأنها أيضا متصادقة مع الاستصحاب من حيث المورد .
فالتحقيق :
أن الاستصحاب - من حيث هو - مخالف للقواعد الثلاث : البراءة ، والحل ، والطهارة ، وإن تصادقت مواردها .
فثبت من جميع ما ذكرنا :
أن المتعين حمل الرواية المذكورة على أحد المعنيين ، والظاهر إرادة القاعدة - نظير قوله ( عليه السلام ) : " كل شئ لك حلال " - ، لأن حمله على الاستصحاب وحمل الكلام على إرادة خصوص الاستمرار فيما علم طهارته سابقا خلاف الظاهر ، إذ ظاهر الجملة الخبرية إثبات أصل المحمول للموضوع ، لا إثبات استمراره في مورد الفراغ عن ثبوت أصله .
نعم ، قوله : " حتى تعلم " يدل على استمرار المغيا ، لكن المغيا به الحكم بالطهارة ، يعني : هذا الحكم الظاهري مستمر له إلى كذا ، لا أن الطهارة الواقعية المفروغ عنها مستمرة ظاهرا إلى زمن العلم .
ومنها :
قوله ( عليه السلام ) : " الماء كله طاهر حتى تعلم أنه نجس ".
وهو وإن كان متحدا مع الخبر السابق من حيث الحكم والغاية إلا أن الاشتباه في الماء من غير جهة عروض النجاسة للماء غير متحقق غالبا ، فالأولى حملها على إرادة الاستصحاب .
والمعنى : أن الماء المعلوم طهارته بحسب أصل الخلقة طاهر حتى تعلم . . . ، أي : تستمر طهارته المفروضة إلى حين العلم بعروض القذارة له ، سواء كان الاشتباه وعدم العلم من جهة الاشتباه في الحكم ، كالقليل الملاقي للنجس والبئر ، أم كان من جهة الاشتباه في الأمر الخارجي ، كالشك في ملاقاته للنجاسة أو نجاسة ملاقيه»[1].
وحاصل ما افاده الشيخ قدس سره بتفصيله:
مضافاً الي ما مر منه من حمله قدس سره رواية عمار بقوله: كل شيء طاهر حتي تعلم انه قذر، وكذا قوله (ع) كل شئ لك حلال.... علي قاعدتي الطهارة والحلية لابتنائهما علي ثبوت الحكم الظاهري علي الاشياء في ظرف الشبهة وعدم العلم واستمرار هذا الحكم الظاهري الي ان يحصل العلم بخلافه.
عدم تمامية ارادة القاعدة والاستصحاب منهما كما صنعه صاحب الفصول قدس سره، وأن تسلم ارادة قاعدة الطهارة والحلية منهما في الشبهة الحكمية والموضوعية خلافاً لصاحب القوانين القائل بامتناع ارادة المعاني الثلاثة من الرواية اعني قاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية وفي الشبهة الموضوعية واستصحاب الطهارة.
ووجه عدم تمامية ارادة القاعدة والاستصحاب منهما عنده ان صاحب الفصول قدس سره اشتبه عليه ذلك من جهة ملاحظة عموم القاعدة لمورد الاستصحاب، وصرح قدس سره ان دلالة الرواية علي طهارة مستصحب الطهارة غير دلالتها علي اعتبار استصحاب الطهارة وأساس ما افاده قدس سره في هذا المقام:
هو انه لو كان مفاد الرواية ثبوت الطهارة الواقعية للأشياء واستمرارها ظاهراً الي ان يحصل العلم بالخلاف فهو بيان للاستصحاب، ولا يمكن استفادة القاعدة منه.
وإن كان مفادها ثبوت الحكم ظاهراً في ظرف الشبهة و عدم العلم، واستمرار هذا الحكم الظاهري الثابت علي الأشياء بعنوان المشتبه الي ان يثبت خلافه، فهو بيان للقاعدة فأين ذلك من بيان الاستصحاب.
ولا جامع بينهما .
كما افاد قدس سره في دفع مقالة صاحب الفصول:
ان ارادة القاعدة والاستصحاب معاً انما توجب استعمال اللفظ في اكثر من معني واحد، لأن المقصود في القاعدة اثبات الطهارة في المشكوك وفي الاستصحاب خصوص ابقائها في معلوم الطهارة سابقاً، والجامع بينهما غير موجودة كما عرفت في البيان السابق منه قدس سره.
هذا ثم ان صاحب الكفاية قدس سره افاد ناظراً الي هذه المناقشة من الشيخ قدس سره علي صاحب الفصول:
« ولا يخفي انه لا يلزم على ذلك استعمال اللفظ في معنيين أصلا ، وإنما يلزم لو جعلت الغاية مع كونها من حدود الموضوع وقيوده غاية لاستمرار حكمه ، ليدل على القاعدة والاستصحاب من غير تعرض لبيان الحكم الواقعي للأشياء أصلا ، مع وضوح ظهور مثل ( كل شئ حلال ، أو طاهر ) في أنه لبيان حكم الأشياء بعناوينها الأولية ، وهكذا ( الماء كله طاهر ) .
وظهور الغاية في كونها حدا للحكم لا لموضوعه ، كما لا يخفى ، فتأمل جيدا».
وظاهر ما افاده هنا:
ان ما افاده الشيخ قدس سره من استلزام مقالة صاحب الفصول محذور استعمال اللفظ في معنيين فهو انما يلزم اذا اريد اثبات الطهارة الظاهرية للأشياء بعنوان المشتبه، والاستصحاب بالروايتين.
وأما اذا اريد اثبات طهارة الاشياء واقعاً واستصحابها فلا ينجه الاشكال المذكور.
وذلك: لأن قوله (ع) كل شئ طاهر انما يتكفل لحكم الاشياء واقعاً.
والغاية في الرواية وهي قوله (ع): حتي تعلم ظاهرة في الاستصحاب كما تقدم.
وعليه فإن هذين القاعدتين وهما حكم الاشياء بعناوينها الأولية والاستصحاب تستفادان من الرواية، ولكن بتعدد الدال والمدلول لا بوحدتها حتي يلزم استعمال اللفظ في اكثر من معني.
والظاهر ان نظر صاحب الكفاية في ذلك الي ان مقصود صاحب الفصول وما استظهره من كلامه ذلك دون ما استظهره الشيخ قدس سره من كلامه، ومعه لا يبتلي بمحذور استعمال اللفظ في اكثر من معني واحد.
وأفاد قدس سره في حاشيته علي الرسائل في ذيل قول الشيخ قدس سره: (نعم ارادة القاعدة والاستصحاب معاً يوجب استعمال اللفظ في معنيين):
«ارادتهما انما توجب ذلك لو كان كما أفاده قدس سره بأن يراد من المحمول فيها تارة أصل ثبوته وأخرى استمراره بحيث كان أصل ثبوته مفروغاً عنه وكذلك الحال في الغاية فجعلت غاية للحكم بثبوته مرة وللحكم باستمراره أخرى .
وأما إذا أريد أحدهما من المغيى والآخر من الغاية فلا .
توضيح ذلك :
ان قوله عليه السلام كل شيء طاهر مع قطع النّظر عن الغاية بعمومه يدل على طهارة الأشياء بعناوينها الواقعية كالماء والتراب وغيرهما فيكون دليلا اجتهادياً على طهارة الأشياء وبإطلاقه بحسب حالات الشيء التي منها حالة كونه بحيث يشتبه طهارته ونجاسته بالشبهة الحكمية أو الموضوعية تدل على قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته كذلك .
وإن أبيت الا عن عدم شمول إطلاقه لمثل هذه الحالة التي في الحقيقة ليست من حالاته بل من حالات المكلف وان كانت لها إضافة إليه فهو بعمومه لما اشتبهت طهارته بشبهة لازمة له لا ينفك عنه أبداً كما في بعض الشبهات الحكمية والموضوعية بضميمة عدم الفصل بينه وبين ساير المشتهيات على طهارتها كلها والا يلزم تخصيصه بلا مخصص ضرورة صدق عنوان الشيء على هذا المشتبه كسائر الأشياء بلا تفاوت أصلا كما لا يخفى .وليس التمسك به فيما اشتبه طهارته موضوعاً تمسكاً بالعامّ في الشبهة المصداقية لأن التمسك به انما هو لأجل دلالته على القاعدة وحكم المشكوك على ما عرفت لا لأجل دلالته على حكم الشيء بعنوانه الواقعي كي يلزم تخصيصه من هذه الحيثية بنجاسة بعض العناوين أو بعض الحالات ولا منافاة بين جواز التمسك به للحكم بطهارة المشتبه من جهة وعدم جوازه من جهة أخرى كما لا يخفى.
[1] الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج3، ص73ـ 77.