بسم الله الرحمن الرحیم
جلسه سی و هشتم
ولا يمكن أن يقال :
إثبات الحكم في القسم الأول فيما بعد وقته من الاستصحاب ، فإن هذا لم يقل به أحد ، ولا يجوز إجماعا .
وكذا الكلام في النهي ، بل هو الأولى بعدم توهم الاستصحاب فيه ، لأن مطلقه يفيد التكرار .
والتخييري أيضا كذلك .
فالأحكام التكليفية الخمسة المجردة عن الأحكام الوضعية لا يتصور فيها الاستدلال بالاستصحاب .
وأما الأحكام الوضعية .
فإذا جعل الشارع شيئا سببا لحكم من الأحكام الخمسة - كالدلوك لوجوب الظهر ، والكسوف لوجوب صلاته ، والزلزلة لصلاتها ، والإيجاب والقبول لإباحة التصرفات والاستمتاعات في الملك والنكاح ، وفيه لتحريم أم الزوجة ، والحيض والنفاس لتحريم الصوم والصلاة ، إلى غير ذلك - .
فينبغي أن ينظر إلى كيفية سببية السبب : هل هي على الإطلاق ؟ كما في الإيجاب والقبول ، فإن سببيته على نحو خاص ، وهو الدوام إلى أن يتحقق المزيل ، وكذا الزلزلة ، أو في وقت معين ؟ كالدلوك ونحوه مما لم يكن السبب وقتا ، وكالكسوف والحيض ونحوهما مما يكون السبب وقتا للحكم ، فإن السببية في هذه الأشياء على نحو آخر ، فإنها أسباب للحكم في أوقات معينة .
وجميع ذلك ليس من الاستصحاب في شئ ، فإن ثبوت الحكم في شئ من أجزاء الزمان الثابت فيه الحكم ، ليس تابعا للثبوت في جزء آخر ، بل نسبة السبب في اقتضاء الحكم في كل جزء نسبة واحدة . وكذا الكلام في الشرط والمانع .
فظهر مما ذكرناه : أن الاستصحاب المختلف فيه لا يكون إلا في الأحكام الوضعية - أعني ، الأسباب والشرائط والموانع للأحكام الخمسة من حيث إنها كذلك .
ووقوعه في الأحكام الخمسة إنما هو بتبعيتها ، كما يقال في الماء الكر المتغير بالنجاسة إذا زال تغيره من قبل نفسه ، بأنه يجب الاجتناب عنه في الصلاة ، لوجوبه قبل زوال تغيره ، فإن مرجعه إلى أن النجاسة كانت ثابتة قبل زوال تغيره ، فكذلك تكون بعده .
ويقال في المتيمم :
إذا وجد الماء في أثناء الصلاة : إن صلاته كانت صحيحة قبل الوجدان ، فكذا بعده - أي : كان مكلفا ومأمورا بالصلاة بتيممه قبله ، فكذا بعده - فإن مرجعه إلى أنه كان متطهرا قبل وجدان الماء ، فكذا بعده . والطهارة من الشروط .
فالحق :
مع قطع النظر عن الروايات - : عدم حجية الاستصحاب ، لأن العلم بوجود السبب أو الشرط أو المانع في وقت لا يقتضي العلم بل ولا الظن بوجوده في غير ذلك الوقت ، كما لا يخفى . فكيف يكون الحكم المعلق عليه ثابتا في غير ذلك الوقت ؟ !
فالذي يقتضيه النظر :
بدون ملاحظة الروايات - : أنه إذا علم تحقق العلامة الوضعية تعلق الحكم بالمكلف ، وإذا زال ذلك العلم بطرو الشك - بل الظن أيضا - يتوقف عن الحكم بثبوت ذلك الحكم الثابت أولا ، إلا أن الظاهر من الأخبار أنه إذا علم وجود شئ ، فإنه يحكم به حتى يعلم زواله ، انتهى كلامه ، رفع مقامه ).
وفي كلامه أنظار يتوقف بيانها على ذكر كل فقرة هي مورد للنظر ، ثم توضيح النظر فيه بما يخطر في الذهن القاصر .
فنقول :
قوله أولا : " والمضايقة بمنع أن الخطاب الوضعي داخل في الحكم الشرعي ، لا يضر فيما نحن بصدده " .
فيه :
أن المنع المذكور لا يضر فيما يلزم من تحقيقه الذي ذكره - وهو اعتبار الاستصحاب في موضوعات الأحكام الوضعية ، أعني نفس السبب والشرط والمانع - وإنما يضر في التفصيل بين الأحكام الوضعية - أعني سببية السبب وشرطية الشرط - والأحكام التكليفية .
وكيف لا يضر في هذا التفصيل منع كون الحكم الوضعي حكما مستقلا ، وتسليم أنه أمر اعتباري منتزع من التكليف ، تابع له حدوثا وبقاء ؟ !
وهل يعقل التفصيل مع هذا المنع ؟)[1]
هذا ما افاده الشيخ قدس سره في وجه التفصيل في جريان الاستصحاب بين الاحكام الوضعية والاحكام التكليفية نقلاً عن الفاضل التوني في الوافية.[2]
وعمدة نقاشه في كلامه ان الاحكام الوضعية ليست احكاماً مستقلة بالجعل، بل انها امور اعتبارية منتزعة من الاحكام التكليفية، فاذا لم يمكن تصوير جريان الاستصحاب في الاحكام التكليفية، فكيف يمكن تصوير جريانه في الاحكام الوضعية؟
ثم انه قدس سره ورد في مقام تبيين ما التزم به من كون الاحكام الوضعية منتزعات عن التكاليف وليس لها جعل مستقل في قبالها.
فلذلك افاد في المقام:
«ثم انه لا بأس بصرف الكلام الي بيان ان الحكم الوضعي... . »
هذا وجه مناسبة ورود الشيخ في تحقيق الاحكام الوضعية في هذا المقام اي خلال البحث في الاستصحاب.
[1] الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج3، ص121ـ 125.
[2] الفاضل التوني، الوافية، ص200ـ 203.