بسم الله الرحمن الرحیم
جلسه نود
هذا ما حققه المحقق العراقي في المقام قبل الورود في البحث عن استصحاب الكلي بتفصيله، وإنما تعرضنا له لما مر من تعريض سيدنا الاستاذ قدس سره فيما مر من كلامه له، وإنما ذكرنا ما افاده بتفصيله، لأنه قد اجاد في البحث عن التفريق بين استصحاب الفرد المردد واستصحاب الكلي في القسم الثاني.
وبه يظهر المناقشة فيما افاد سيدنا الاستاذ من ان الموضوع لجريان الاستصحاب في القسم الثاني من استصحاب الكلي هل هو مفهوم الكلي او وجوده، وبما ان مفهومه ليس موضوعاً للأثر، بل ان الموضوع للأثر هو وجوده والكلي في مقام الوجود والتحقق لا يخلو من الفرد المردد بين معلوم الانتفاء ومعلوم البقاء فيجري فيه جميع ما اورد علي استصحاب الفرد المردد، وقد ظهر في كلام المحقق العراقي:
ان الموضوع للأثر في المقام هو وجود الكلي ولكنه ليس وجوده لا يقبل التحقق الا في الفرد مردداً بين الطويل والقصير.
وذلك، لأن الكلي وإن كان في مقام التحقق الخارجي عين وجود فرده وإن الكلي الطبيعي يوجد بوجود افراده، الا ان له وجود في وعاء الذهن وهو هوية ذاتية كالجنس والفصل موضوع للأثر شرعاً وإن لهويته آثار تترتب عليها غير الاثار الخاصة المترتبة علي افراده، وهذا هو الفارق الأساسي بين استصحاب الكلي في المقام اي القسم الثاني مع استصحاب الفرد المردد.
فإن الفرد المردد لا هوية ذاتية له بل هو انتزاع محض لا هوية له الا في وعاء الانتزاع بخلاف الكلي حيث انه يعرض علي هويته الذاتية الوجود في وعاء الذهن ويكون موضوعاً للأثر شرعاً. كمثال الحدث الكلي في ضمن الأكبر والأصغر، فإنه بعد التوضي او التيمم اذا شك في بقاء الحدث فإنما يستصحب بقائه وهو موضوع للأثر وهو عدم صحة الصلاة وعدم اباحة الدخول فيها، وهذا اثر لكلي الحدث، وكذلك في غيره من الامثلة.
والنكتة الاساسية في كلامه، ان ما اورد علي استصحاب القسم الثاني من الكلي انما يرجع الي ان الشك في بقائه لا يرجع الي الشك في بقاء افراده، بأن كان موضوع الشك منتفياً لتردده بين معلوم الارتفاع ومعلوم البقاء، فإن هذا التصوير انما يكون في مقام تعلق الشك بالأفراد، مع انه يلزم في الاستصحاب تعلق الشك بعين ما تعلق به اليقين، وما تعلق به اليقين هو نفس الكلي فيلزم ان يكون نفسه موضوعاً للشك اللاحق. والشك قابل للتصوير في الكلي لدوران الفرد الذي كان الكلي في ضمنه بين البقاء والانتفاء. فلا يمكن هنا ان يكون موضوع اليقين الكلي وموضوع الشك الفرد، فإن في مثله يتبدل الموضوع للشك وما يلزم في الاستصحاب تعلق الشك بعين ما تعلق به اليقين.
كما ان ما افاده قدس سره بتمامية اركان الاستصحاب في استصحاب الفرد المردد وأنه يمكن تصوير تعلق الشك بنفس المفهوم المردد بعد تعلق اليقين به مما لا يستبعد الالتزام به، لامكان تصوير تعلق اليقين والشك بنفس المفهوم المردد ومعناه التعبد ببقاء العنوان المردد ومفهمومه. وإن تمام المشكل في استصحابه انه لا يترتب عليه اثر شرعي، بل الأثر انما يترتب علي الفرد دون مفهوم المردد.
كما ان ما افاده قدس سره من ان كون الكلي عنواناً ذاتياً والمردد عنواناً عرضياً انتزاعيا لا يكون فارقاً في المقام قابل للدقة.
وإن كان ربما يمكن التأمل فيه من ان وجه كون الكلي بعنوانه موضوعاً للأثر هو هويته الذاتية وتصوير وجوده في عالم الذهن. وأن له وجود في الذهن غير ما له الوجود في الخارج المتحقق في ضمن افراده، فإن الذهن انما يتمكن من تجريد عنوان الكلي عن افراد، واسناد الحكم اليه فارغاً عن تصوير افراده. ولذلك يكون موضوعاً للأثر شرعاً كما يكون موضوعاً للأثر عرفا وعقلاءً.
وبذلك يصير قابلاً للتعبد الشرعي ببقائه، وهو امر مفقود في العنوان المردد، فإنه ليس اكثر من عنوان مشير الي افراده من غير ان يكون له هوية ولو في وعاء الذهن.
وبالجملة: ان ما حققه المحقق العراقي قدس سره في غاية الدقة والمتانة، كما انه قد ظهر به دفع ما اورد السيد الاستاذ قدس سره علي القسم الثاني من استصحاب الكلي من ان التمسك بادلة الاستصحاب في مورده تمسك بالدليل في شبهته المصداقية لأنه بعد احتمال كون الكلي موجوداً في ضمن الفرد القصير المتيقن ارتفاعه، لم يحرز ان نقض اليقين في مورده كان بالشك، بل يحتمل انه كان نقضه باليقين.
وذلك لما مر من ان الشك في المقام انما يتعلق بنفس ما تعلق به اليقين وهو عنوان الكلي وهو كما يحتمل ان يكون في ضمن الفرد القصير يحتمل ان يكون في ضمن الفرد الطويل، فتنقض اليقين في مورده نقض بالشك لأنه لم يحرز كونه في ضمن اي واحد منهما خارجاً، ولو كان هذا الاحتمال جارياً لما امكن جريان الاستصحاب في مورد لأنه يردد امر الشك بين الوجود والعدم وأنه كما يحتمل في اي مورد بقاء اليقين، كذلك يحتمل انتفائه، فصار التمسك بدليله من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية.
هذا تمام الكلام في استصحاب الكلي في القسم الثاني وقد عرفت انه لا محذور اساسي في جريان هذا الاستصحاب.
كما انه يترتب عليه الآثار المترتبة علي الكلي، دون الآثار المترتبة علي افراده التي كان الكلي في ضمنها بخصوصها وخصوصيتها.
تتمة:
قال السيد الاستاذ قدس سره:
«ويبقي هنا بحث قد اثاره المرحوم المحقق السيد إسماعيل الصدر ( رحمه الله ) عرف على الألسنة وفي العبارات ب: " الشبهة العبائية ".
وملخص هذه الشبهة:
بعد الالتزام بعدم انفعال ملاقي أحد أطراف الشبهة المحصورة للنجاسة:
انه لو فرض انه قد تنجس جانب من عباءة لا يعرف بعينه بل كان مرددا بين الا على والأسفل، ثم طهر الأعلى - مثلا – فلاقى جسم الانسان الجانب الاخر وهو الأسفل، فإنه لا يحكم بنجاسة الجسم لعدم العلم بنجاسة الجانب الأسفل، والمفروض ان ملاقاة أحد أطراف الشبهة المحصورة لا تستلزم الانفعال.
وأما لو لاقى الجسم تمام العباءة بجانبيها، فان مقتضى استصحاب بقاء النجاسة في العبائة هو الحكم بنجاسة الجسم.
ومثل هذا الحكم غريب، إذ بعد عدم الحكم بالنجاسة عند ملاقاته للجانب غير المطهر، فكيف يحكم بنجاسته إذا انضم إليها ملاقاة الجانب المطهر ؟ لوضوح عدم تأثير ملاقاة الطاهر في الانفعال ضرورة.
وبعبارة أخرى:
يلزم الحكم بنجاسة ملاقي مقطوع الطهارة ومشكوك النجاسة.
والمحصل:
ان استصحاب الكلي ههنا يستلزم حكما غريبا لا يمكن البناء عليه ).
وتصدي الاعلام لدفع الشبهة.
فأفاد المحقق النائيني في اجود التقريرات بما محصله:
انه لا يجري استصحاب النجاسة في المثال لاثبات نجاسة الملاقي لعدم ترتب اثر شرعي عليها.
وذلك: لأن نجاسة الملاقي تترتب علي امرين:
1 ـ احراز الملاقاة.
2 ـ احراز نجاسة الملاقي ـ بالفتح ـ
ومن المعلوم: ان استصحاب النجاسة الكلية المرددة بين الطرف الاعلي والاسفل لا يثبت تحقق ملاقاة النجاسة الذي هو الموضوع لنجاسة الملاقي[1].
وأفاد قدس سره في دفعها في فوائد الاصول:
ان محل الكلام في استصحاب الكلي إنما هو فيما إذا كان نفس المتيقن السابق بهويته وحقيقته مرددا بين ما هو مقطوع الارتفاع.
وما هو مقطوع البقاء، كالأمثلة المتقدمة، وأما إذا كان الاجمال والترديد في محل المتيقن وموضوعه لا في نفسه وهويته فهذا لا يكون من الاستصحاب الكلي، بل يكون كاستصحاب الفرد المردد.
كما لو علم بوجود الحيوان الخاص في الدار وتردد بين أن يكون في الجانب الشرقي أو في الجانب الغربي، ثم انهدم الجانب الغربي واحتمل تلف الحيوان بانهدامه لاحتمال أن يكون في الجانب المنهدم.
وكما لو علم بوجود درهم خاص لزيد فيما بين هذه الدراهم العشر ثم ضاع أحد الدراهم واحتمل أن يكون الضائع هو درهم زيد، فإنه لا يجري الاستصحاب في المثالين.
لأن المتيقن أمر جزئي حقيقي لا ترديد فيه، وانما الترديد في محله وموضوعه، فهو أشبه باستصحاب الفرد المردد عند ارتفاع أحد فردي الترديد. وما نحن فيه من هذا القبيل كما لا يخفى، فان التردد في النجاسة بلحاظ محلها لا حقيقتها [2]
وأفاد السيد الاستاذ قدس سره بعد ذكر التقريبين لدفع الاشكال عن المحقق النائيني قدس سره:
«تحقيق الكلام في حل هذه الشبهة ـ لو سلمت انها شبهة مستلزمة لمحذور فقهي، فان للتأمل في ذلك مجالا واسعا:
ان اسناد النجاسة إلى العباءة اسناد مسامحي، فان تمام العباءة ليس متنجسا وانما أحد طرفيها، فالفرد المتنجس مردد بين فردين.
وعليه، فيرد على جريان الاستصحاب في النجاسة في المثال وجهان:
الأول:
انه من استصحاب الفرد المردد، وذلك:
لان الأثر الشرعي في باب الانفعال المأخوذ في موضوعه النجس مترتب على النجس بنحو العموم الاستغراقي، فالموضوع هو كل فرد من افراد النجس، وليس هو مترتبا على كلي النجس، فالمستصحب في المثال هو الفرد الواقعي للمتنجس المردد بين ما هو مقطوع البقاء وما هو مقطوع الارتفاع.
ولا معنى لاستصحاب كلي المتنجس لاثبات الانفعال. وقد عرفت أن استصحاب الفرد المردد لا مجال له.
ولعل ما ذكرناه هو مراد المحقق النائيني ( رحمه الله ) في وجهه الثاني وإن لم يكن صريحا فيه فتدبر.
واما ما ذكره من أمثال الدرهم الضائع، فلم يتضح لنا وجهه، إذ أي اثر لجريان الاستصحاب في مورد الضياع حتى يبحث فيه، إذ هو لا يخرج عن الملكية بالضياع كما لا تجوز المطالبة به لعدم القدرة على تسليمه بعد اشتباهه بغيره واحتمال ضياعه.
نعم لو مثل له بالتلف كان استصحاب بقائه وعدم تلفه مؤثرا في بقاء الملكية لزوال الملكية بالتلف. فتدبر والأمر سهل.
الوجه الثاني:
انه لو سلم جريان الأصل في الفرد المردد في نفسه أو جريانه في كلي النجس الموجود، فلا ينفع في ترتب الانفعال، إذ الانفعال مترتب على ملاقاة ما هو نجس بمفاد كان الناقصة.
فموضوع التنجيس هو كون الملاقي نجسا، وهذا لا يثبت باستصحاب بقاء النجس - بنحو الكلي أو الفرد
المردد - إلا بالملازمة.
فهو نظير استصحاب بقاء الكر في الحوض لاثبات كرية الماء الموجود فيه.
فاستصحاب بقاء النجس لا يثبت نجاسة الموجود الملاقي إلا على القول بالأصل المثبت.
[1]. السيد الخوئي، أجود التقريرات تقرير البحث السيد النائيني، ج2، ص395.
[2]. الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج4، ص422.