بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه هفتاد و چهارم
وقد افاد المحقق النائینی قدس سره فی مباحث القطع فی قیام الطرق والامارات والاصول مقام القطع:
«وتفصیل ذلک یستدعی تقدیم امور:
الاول:
المراد من الاصول المبحوث عنها في المقام من حيث قيامها مع القطع ليس مطلق الأصول، بل خصوص الأصول التنزيلية – أي المتكفلة لتنزيل المؤدى منزلة الواقع - بحيث يكون المجعول فيها البناء العملي على أحد طرفي الشك على أنه هو الواقع وإلقاء الطرف الآخر كالاستصحاب، وأصالة الصحة، وقاعدة التجاوز، وأمثال ذلك من الأصول المحرزة - كما يأتي تفصيله إنشاء الله تعالى في محله - فمثل أصالة الطهارة والبرائة والاشتغال ليس داخلا في محل الكلام في المقام، ولذا قيد الشيخ ( قده ) ببعض الأصول.
الثاني: قد عرفت أن القطع من الصفات الحقيقية ذات إضافة، ولأجل ذلك يجتمع في القطع جهات ثلاث:
الجهة الأولى:
جهة كونه صفة قائمة بنفس العالم من حيث إنشاء النفس في صقعها الداخلي صورة على طبق ذي الصورة، وتلك الصورة هي المعلومة بالذات، ولمكان انطباقها على ذي الصورة، يكون ذيها معلوما بتوسط تلك الصورة.
فالمعلوم أولا وبالذات هي الصورة، وتلك الصورة هي حقيقة العلم والمعلوم، وهذا من غير فرق بين أن نقول: إن العلم من مقولة الكيف، أو من مقولة الفعل، أو من مقولة الانفعال، أو من مقولة الإضافة - على اختلاف الوجوه والأقوال - فإنه على جميع التقادير تكون هناك صفة قائمة في نفس العالم.
فهذه أول جهات العلم.
الجهة الثانية: جهة إضافة الصورة لذي الصورة، وهي جهة كشفه عن المعلوم ومحرزيته له وإرائته للواقع المنكشف.
وهذه الجهة مترتبة على الجهة الأولى، لما عرفت من أن إحراز الواقع وكشفه إنما يكون بتوسط الصورة.
الجهة الثالثة:
جهة البناء والجري العملي على وفق العلم، حيث إن العلم بوجود الأسد مثلا في الطريق يقتضى الفرار عنه، وبوجود الماء يوجب التوجه إليه إذا كان العالم عطشانا، ولعله لذلك سمى العلم اعتقادا، لما فيه من عقد القلب على وفق المعتقد والبناء العملي عليه.
فهذه الجهات الثلاث كلها مجتمعة في العلم وتكون من لوازم ذات العلم، حيث إن حصول الصورة عبارة عن حقيقة العلم ومحرزيته وجداني و البناء العملي عليه قهري.
ثم إن المجعول في باب الطرق والأمارات هي الجهة الثانية من جهات العلم، وفي باب الأصول المحرزة هي الجهة الثالثة.
وتوضيح ذلك:
هو أن المجعول في باب الأمارات نفس الطريقية والمحرزية والكاشفية، بناء على ما هو الحق عندنا: من تعلق الجعل بنفس الطريقية، لا بمنشأ انتزاعها، كما هو مختار الشيخ ( قده ) - وسيأتي إنشاء الله تفصيله في مبحث الظن - وأن تصوير ما يكون منشأ لانتزاع الطريقية في غاية الإشكال بل كاد أن يكون من المحالات. وليس المجعول في باب الأمارات هو المؤدى بحيث يتعلق حكم بالمؤدى غير ما للمؤدى من الحكم الواقعي، فان ذلك غير معقول كما سيأتي.
بل المجعول هو الطريقية والوسطية في الإثبات والكاشفية عن الواقع، أي تتميم الكاشفية بعد ما كان في الطرق والأمارات جهة كشف في حد أنفسها، غايته أن كشفها ناقص وليس ككاشفية العلم.
ومن هنا اعتبرنا في كون الشئ أمارة من أن يكون له في حد ذاته جهة كشف، والشارع في مقام الشارعية تمم كشفه وجعله محرزا للواقع و وسطا لاثباته، فكأن الشارع في عالم التشريع جعل الظن علما من حيث الكاشفية والمحرزية بلا تصرف في الواقع ولا في المؤدى، بل المؤدى بعد باق على ما هو عليه من الحكم الواقعي صادفت الأمارة للواقع أو خالفت، لأنه يكون من مصادفة الطريق أو مخالفة الطريق لذي الطريق من دون توسعة في الواقع وتنزيل شئ آخر منزلة الواقع، فان كل ذلك لم يكن، بل المجعول هو نفس الطريقية والكاشفية والمحرزية التي كان القطع واجدا لها بذاته.
والظن يكون واجدا لها بالتعبد والجعل الشرعي.
فهذا هو المجعول في باب الطرق والأمارات.
وأما المجعول في باب الأصول التنزيلية:
فهي الجهة الثالثة من العلم، وهو الجري والبناء العملي على الواقع من دون أن يكون هناك جهة كشف وطريقية، إذ ليس للشك الذي اخذ موضوعا في الأصول جهة كشف عن الواقع كما كان في الظن - فلا يمكن أن يكون المجعول في باب الأصول الطريقية والكاشفية، بل المجعول فيها هو الجري العملي والبناء على ثبوت الواقع عملا الذي كان ذلك في العلم قهريا وفي الأصول تعبديا.
ومما ذكرنا ظهر:
أن حكومة الطرق والأمارات والأصول على الأحكام الواقعية ليست الحكومة الواقعية، مثل قوله " الطواف بالبيت صلاة " وقوله " لا شك لكثير الشك " بل الحكومة الظاهرية.
والفرق بين الحكومة الواقعية والحكومة الظاهرية، هو أن الحكومة الواقعية توجب التوسعة والتضيق في الموضوع الواقعي، بحيث يتحقق هناك موضوع آخر واقعي في عرض الموضوع الأولى كما في قوله " الطواف بالبيت صلاة ".
وهذا بخلاف الحكومة الظاهرية مع ما لها من العرض العريض: من حكومة الأمارات بعضها على بعض، وحكومتها على الأصول، وحكومة الأصول بعضها على بعض، وحكومة الجميع على الأحكام الواقعية، فإنه ليس في الحكومة الظاهرية توسعة وتضييق واقعي، إلا بناء على بعض وجوه جعل المؤدى الذي يرجع إلى التصويب.
وأما بناء على المختار: من عدم جعل المؤدى وأن المجعول فيها هو الوسطية في الإثبات والكاشفية والمحرزية، فليس هناك توسعة وتضييق واقعي، وحكومتها إنما تكون باعتبار وقوعها في طريق إحراز الواقع في رتبة الجهل به، فيكون المجعول في باب الطريق والأمارات والأصول في طول الواقع لا في عرضه.
وليس للشارع حكمان: حكم واقعي وحكم ظاهري، بأن يكون تكليفان مجعولان شرعيان: أحدهما تكليف واقعي، والآخر تكليف ظاهري.
فان التكليف الظاهري بهذا المعنى مما لا نعقله.
والمراد من كون مؤديات الطرق والأصول أحكاما ظاهرية هو كونها مثبتة للواقع عند الجهل والحكم بأن مؤدياتها هو الواقع لمكان كونها محرزة له، و ليس هناك حكم آخر وراء الواقع يسمى بالحكم الظاهري، كما ربما يتخيل.
فظهر:
أن ما بين الحكومة الواقعية والحكومة الظاهرية بون بعيد، وأن حكومة الأمارات إنما تكون حكومة ظاهرية واقعة في طول الواقع وفي طريق إحرازه، ويكون المجعول فيها نفس المحرزية، والتنجيز والعذر من اللوازم العقلية المترتبة على ما هو المجعول، لوضوح أن التنجز لا يكون إلا بالوصول إلى الواقع وإحرازه، إما بنفسه ( كما في العلم والطرق والأمارات والأصول المتكفلة للتنزيل ).
وإما بطريقه ( كما في موارد جريان أصالة الاحتياط ) على ما سيأتي توضيحه في محله.
وعلى كل حال: نفس التنجيز والعذر غير قابل للجعل، كما ربما يوهمه بعض الكلمات، وإنما الذي يكون قابلا للجعل هو المحرزية والوسطية في الإثبات ليكون الواقع واصلا إلى المكلف، ويلزمه عقلا تنجيز الواقع...»[1]
[1] الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج3، ص7 ـ 8.