بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه هشتادم
الثالث:
انه قد استثنی من عدم اعتبار الاصول المثبتة فی الاستصحاب صورۀ خفاء الواسطۀ، وقد مر التصریح به فی کلام الشیخ وصاحب الکفایة قدس سره.
ووجهه:
ان التعبد الاستصحابی المتعلق بالمستصحب والبناء علی احد طرفی الشک فی مقام البناء العملی حیث انه متحقق فی دائرۀ سلطنۀ الشرع، فإنما یفید تحقق الموضوع للآثار الشرعیۀ واحکامها تعبداً، ولا یوجب تحقق الموضوع للآثار العرفیة او العقلیۀ تعبداً لعدم کونها فی دائرۀ هذه السلطنۀ فلا تترتب هذه الآثار علی الموضوع المتحقق شرعاً بالتعبد ونعبر عنه بأن هذه الآثار لا تثبت بالاستصحاب فمعنی ثبوتها ترتبها علی المستصحب المفروض ثبوته بالتعبد، وبتبعه لا يثبت الآثار الشرعیۀ المترتبۀ علیها، وحینئذ اذا کانت الواسطۀ ـ وهی غالباً الواسطۀ العرفیۀ ـ خفیۀ عرفاً بمعنی ان العرف یری ترتب الأثر الشرعی علی نفس المستصحب الذی هو موضوع للتعبد الشرعی والثبوت التعبدی، فإنهم التزموا بالثبوت بمعنی ترتب هذه الآثار الشرعیۀ، فإنها و ان تترتب علی الواسطۀ العرفیة والأثر العرفی المترتب علی المستصحب واقعاً الا ان خفاء هذه الواسطه علی حد لا یراها العرف وإنما یری ترتب تلک الآثار الشرعیۀ علی نفس المستصحب.
وقد مر تمثیل الشیخ له فیما مر من کلامه بعد بیان هذا الاستثناء فی کلامه:
«نعم هنا شئٌ:
وهو ان بعض الموضوعات الخارجیۀ المتوسطۀ بین المستصحب وبین الحکم الشرعی من الوسائط الخفیۀ، بحیث یعد فی العرف الاحکام الشرعیۀ المترتبۀ علیها احکاماً لنفس المستصحب.
وهذا المعنی یختلف وضوحاً وخفاءً باختلاف مراتب خفاء الوسائط عن انظار العرف.
منها:
ما اذا استصحب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر.
فإنه لا يبعد الحكم بنجاسته، مع أن تنجسه ليس من أحكام ملاقاته للنجس رطبا، بل من أحكام سراية رطوبة النجاسة إليه وتأثره بها، بحيث يوجد في الثوب رطوبة متنجسة.
ومن المعلوم أن استصحاب رطوبة النجس الراجع إلى بقاء جزء مائي قابل للتأثير لا يثبت تأثر الثوب وتنجسه بها، فهو أشبه مثال بمسألة بقاء الماء في الحوض، المثبت لانغسال الثوب به.
وحكى في الذكرى عن المحقق: تعليل الحكم بطهارة الثوب الذي طارت الذبابة عن النجاسة إليه، بعدم الجزم ببقاء رطوبة الذبابة، وارتضاه.
فيحتمل أن يكون لعدم إثبات الاستصحاب لوصول الرطوبة إلى الثوب كما ذكرنا، ويحتمل أن يكون لمعارضته باستصحاب طهارة الثوب إغماضا عن قاعدة حكومة بعض الاستصحابات على بعض كما يظهر من المحقق، حيث عارض استصحاب طهارة الشاك في الحدث باستصحاب اشتغال ذمته.
ومنها: أصالة عدم دخول هلال شوال في يوم الشك، المثبت لكون غده يوم العيد، فيترتب عليه أحكام العيد، من الصلاة والغسل وغيرهما. فإن مجرد عدم الهلال في يوم لا يثبت آخريته، ولا أولية غده للشهر اللاحق، لكن العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم انقضاء رمضان وعدم دخول شوال، إلا ترتيب أحكام آخرية ذلك اليوم لشهر وأولية غده لشهر آخر، فالأول عندهم ما لم يسبق بمثله والآخر ما اتصل بزمان حكم بكونه أول الشهر الآخر.
وكيف كان، فالمعيار خفاء توسط الأمر العادي والعقلي بحيث يعد آثاره آثارا لنفس المستصحب.
وربما يتمسك في بعض موارد الأصول المثبتة، بجريان السيرة أو الإجماع على اعتباره هناك، مثل: إجراء أصالة عدم الحاجب عند الشك في وجوده على محل الغسل أو المسح، لإثبات غسل البشرة ومسحها المأمور بهما في الوضوء والغسل.
وفيه نظر.
وقد مر ان السید الخوئی قدس سره اورد علی هذه المقالۀ من الشیخ:
«.. اما ما ذکره الشیخ:
من کون الأصل المثبت حجۀ مع خفاء الواسطة لكون الأثر مستندا إلى ذي الواسطة بالمسامحة العرفية.
ففيه:
أنه لا مساغ للاخذ بهذه المسامحة، فان الرجوع إلى العرف إنما هو لتعيين مفهوم اللفظ عند الشك فيه أو في ضيقه وسعته مع العلم بأصله في الجملة، لان موضوع الحجية هو الظهور العرفي، فالمرجع الوحيد في تعيين الظاهر هو العرف، سواء كان الظهور من جهة الوضع أو من جهة القرينة المقالية والحالية.
ولا يجوز الرجوع إلى العرف والاخذ بمسامحاتهم بعد تعيين المفهوم وتشخيص الظهور اللفظي، كما هو المسلم في مسألة الكر، فإنه بعد ما دل الدليل على عدم انفعال الماء إذا كان بقدر الكر الذي هو الف ومأتا رطل، ولكن العرف يطلقونه على أقل من ذلك بقليل من باب المسامحة.
فإنه لا يجوز الاخذ بها والحكم بعدم انفعال الأقل، بل يحكم بنجاسته.
وكذا في مسألة الزكاة بعد تعيين النصاب شرعا بمقتضى الفهم العرفي من الدليل لا يمكن الاخذ بالمسامحة العرفية.
ففي مثل استصحاب عدم الحاجب إن كان العرف يستظهر من الأدلة أن صحة الغسل من آثار عدم الحاجب مع صب الماء على البدن، فلا يكون هذا استثناء من عدم حجية الأصل المثبت، لكون الأثر حينئذ أثرا لنفس المستصحب لا للازمه، وإن كان العرف معترفا بأن المستظهر منها أن الأثر أثر للواسطة - كما هو الصحيح - فان رفع الحدث وصحة الغسل من آثار تحقق الغسل لامن آثار عدم الحاجب عند صب الماء، فلا فائدة في خفاء الواسطة بعد عدم كون الأثر أثرا للمستصحب، فهذا الاستثناء مما لا يرجع إلى محصل )[1].
ویمکن ان یقال:
انه لیس فی کلام الشیخ فی المقام التعبیر بمسامحۀ العرف، بل المذکور فیه ان بعض الموضوعات الخارجیة ـ الاثار العرفیة او العقلیة ـ المتوسطۀ بین المستصحب وبین الحکم الشرعی من الوسائط الخفیۀ، بحیث یعد فی العرف الاحکام الشرعیۀ المترتبۀ علیها احکاماً لنفس المستصحب وأفاد بأن هذا المعنی یختلف وضوحاً وخفاءً باختلاف مراتب خفاء الوسائط عن انظار العرف.
فالمعیار فی کلامه لخفاء الواسطة ترتب الأثر الشرعی ـ المفروض کونه اثر مترتباً علی الواسطۀ ـ علی نفس المستصحب عرفاً بحیث ان العرف لا یری الا کون المستصحب موضوعاً لنفس الاثر الشرعی، لا موضوعاً للواسطۀ ثم ترتب الأثر الشرعی علیها.
ولیس هذا من المسامحۀ العرفیۀ.
فإن العرف وإن کان شأنه تعیین المفاهیم عند الشک فیه، الا ان شأنه تبیین الموضوع بما انه معروض الحکم، والرجوع الی العرف لتعیین سعۀ الموضوع وضیقۀ ایضاً انما کان لأجل ان الشاخص لتعیین الموضوع هو العرف. ولا ینحصر شأنه فی تحدید الموضوع فقط، بل ان تحدید الموضوع مقدمۀ لتبیین ما هو معروض الحکم عنده.
فإذا رأی العرف ان معروض الحکم نفس المستصحب، فلا کلام فی ترتب الحکم علیه، لأن الحکم وإن صدر من الشارع الا ان تعلقه بالموضوع والمعروض وظیفۀ للعرف دون الشرع ولا العقل، وفی المقام ایضاً کان مدعی الشیخ انه لو یری العرف المستصحب نفس الموضوع والمفروض للحکم، فإنه یترتب الحکم علیه، وإن کان بالدقۀ العقلیۀ ان الحکم لا یترتب علی نفس المستصحب بل یترتب علی الواسطة بینه وبینه الا ان العرف لا یری هذه الواسطۀ لخفائه عنده.
وعلیه فإنه یفترق مع ما یسمی بالمسامحات العرفیة فی مثل تحدید الکر والنصابات فی باب الزکاۀ وامثاله.
هذا مع انه لا یتم نقض المقام بمسامحات العرف فی مثلها وعدم اعتبارها.
وذلک:
لأن فی باب الکر لنا موضوع شرعی وهو تحدید خاص لا یتعلق الحکم به الا مع تمامیۀ هذا التحدید، وکذا فی نصابات باب الزکاۀ، ففی مثلها ان الشارع تصرف فی الموضوع وقرر الموضوع لحکمه حداً خاصاً لا يجری حکمه المجعول فی غیره، ولو کان الموضوع فیها بید العرف لا يخرج فيها هذه المسامحات عن الاعتبار.
[1] البهسودي، مصباح الاصول تقرير البحث السيد الخوئي، ج3، ص159.