بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه بيست و هفت
ثم انه قد مر في كلام العلمين ان رجوع الباذل بعد بذله وبعد تلبس المبذول له بالاحرام انما يؤثر وضعاً. واثره ثبوت الضمان للمبذول له اذا تصرف في المبذول بعد رجوعه، كما لا يجوز له التصرف فيه تكليفاً عند السيد الحكيم كما ان اثره ثبوت الضمان على الباذل فيما يصرفه المبذول له لاتمام حجه في فرض وجوب الاتمام عند السيد الخوئي، وكان الالتزام بهما مبني على جواز رجوع الباذل عن بذله بمقتضى قاعدة السلطنة وان الرجوع بعد جوازه يستلزم آثاراً وضعاً.
وافاد السيد الاستاذ (قدس سره) في المرتقى في ذيل قول صاحب العروة (قدس سره):
«وفي جواز رجوعه عنه بعده وجهان»
قال:
«وجه الجواز قاعدة السلطنة المقتضية لجواز الرجوع عن البذل كسائر أنواع الإباحة.
أما وجه عدم الجواز، فهو تارة بلحاظ الحكم التكليفي و اخرى بلحاظ الأثر الوضعي.
أما وجه الحرمة التكليفية، فهو أن الرجوع بعد الاحرام يستلزم وقوع المبذول له في الضرر المالي، فيحرم ذلك لحرمة الاضرار بالغير.
و أما وجه الحرمة الوضعية، فهي قاعدة الضرر بناء على رفعها الحكم المستتبع للضرر، لا نعني أن حق الرجوع يستلزم الضرر فهو مرتفع بالقاعدة، فأن حق الرجوع ليس حكما وضعيا مجعولا في نفسه و انما هو من توابع سلطنة الشخص على ماله و انما نعني ان حرمة التصرف في المال من قبل المبذول له بعد الرجوع مستلزمة للضرر، فهي مرفوعة بقاعدة الضرر.
و دعوى: معارضة هذا الضرر بضرر الغير فان في تصرف المبذول له في المال ضررا على الباذل فيتعارض الضرران.
تندفع: بان هذا الضرر عليه لا تشمله أدلة نفي الضرر كي يلزم التعارض لأنه من قبله، فهو نظير ما لو وجه شخص نارا فوصلت الى متاع شخص فمنعها من الوصول فاستلزم ذلك وصولها الى متاع ذلك الشخص الموجّه فأتلفته فانه لا يكون هذا الضرر مشمولا للقاعدة لانه من قبله و لا منافاة في شمول القاعدة لأحدهما للامتنان كما لا يخفى. كما أنّه مع الغض عن ذلك يمكن إثبات ضمان الباذل لما يصرف المبذول له بعد الرجوع بوجهين:
أحدهما: قاعدة الغرور المتكفلة لرجوع المغرور على من غرّه. فان بذل الباذل مع وثوق المبذول له بقوله و رجوعه بعد ذلك يعد تغريرا للمبذول له فيعود عليه بخسارته.
الثاني: قاعدة الإتلاف. و توضيح انطباقها على ما نحن فيه أنّ قاعدة الإتلاف تتكفل تضمين من يتلف مال غيره و يضيّعه و مصداقها الواضح الذي لا يحتاج الى كلام هو صورة المباشرة للإتلاف.
و يلحق بهذه الصورة التسبيب للاتلاف بنحو يكون تأثير السبب أقوى من المباشرة- كما في صورة الإكراه إذ إرادة المكره كلا إرادة في نظر العرف- فيكون المكرّة في نظرهم كالآلة التكوينية التي يتحقق بها الإتلاف، فيصدق على المسبب بأنه أتلف مال غيره. و هذا من الأمور المسلمة لدى الفقهاء و العرف.
و يلحق بهذه الصورة ما إذا كان عمل الشخص مستلزما لفعلية الحكم الشرعي الالزامي على الغير الذي لا مفرّ منه الموجب لصرف المال، فإنه يعدّ من مصاديق إتلاف مال الغير، و نظيره في التكوينيات أن يؤجج شخص نارا و يذهب فيأتي آخر فيوجّه النار الى مال الغير فتحرقها، فإنّه لا فرق بين هذه الصورة بين صورة ما إذا أجّج هو بنفسه نارا و أحرق بها المال الغير.
و ما نحن فيه من هذا القبيل، فإن الحكم الشرعي بلزوم الحج على المبذول له و لزوم المضي في الإحرام بعد تحققه مجعول من قبل الشارع في نفسه، فإذا بذل الباذل المال للغير لأجل الحج فقد صار الحكم فعليا قهرا، فإذا أمره كان لزوم المضي في الاحرام ثابتا في حقه و لا اختيار في رفعه. و المفروض أن امتثال هذا الحكم يستلزم صرف المال، فيكون صرف المال مستندا الى بذل الباذل لكون إرادة الممتثل كإرادة المكره ضعيفة و عدم كون الفعلية اختيارية للشارع لأنها لا ترتبط به بل هي ترتبط بتحقق الموضوع لأن الشارع يجعل الحكم على تقدير وجود الموضوع، فإذا وجد الموضوع ثبت الحكم قهرا و كان فعليا و ليس صرف المال بإزاء منفعة عقلائية تعود على المبذول له و يحتاجها الصارف في نفسه فإنه كان في غنى عنها و لا حاجة له فيها لو لا البذل.
و بالجملة: فالبذل و الرجوع يعدّ إتلافا للمال و إن كان بإرادة المالك لكنها إرادة ضعيفة كإرادة المكره، فتشمله قاعدة الإتلاف.
و لا يخفى أن هذا الوجه كما يجري في صورة الوثوق بعدم الرجوع يجري في صورة عدم الوثوق و إجراء الاستصحاب الموجب لفعلية الحكم، فإنه بالبذل أوجب صيرورته موضوعا للاستصحاب فيثبت في حقّه الحكم الاستصحابي فعلا، كما في صورة العلم بلا إختلاف.
نعم، تفترق صورة الوثوق بعدم الرجوع و صورة عدمه في الوجه الأول، فإن قاعدة الغرور تجري في صورة الوثوق من كلامه. و لا تجري في صورة الشك و عدم الوثوق، إذ مع الشك لا يعدّ البذل تقريرا للالتفات الى امكان الرجوع كما لو صرّح له بأني من الجائز أن أرجع عن بذلي. أما قاعدة الضرر فهي تجري في الصورتين أيضا لصدق الاضرار على الرجوع في كلتيهما. و من ذلك يظهر أنه لا يجوز له الرجوع و أن اللازم الالتزام بهذا الرأي دون جوازه.»[1]
وحاصل ما افاده (قدس سره):
انه (قدس سره) التزم بعد جواز رجوع الباذل عن بذله اذا تلبس المبذول له بالاحرام وافاد في مقام توجيه ما اختاره بان الرجوع يستلزم وقوع المبذول له في الضرر المالي، فيحرم لحرمة الاضرار بالغير.
هذا بحسب التكليف، واما بحسب الوضع:
فاستدل لضمان الباذل لما يصرفه المبذول له لاتمام الحج بوجوه ثلاثة:
1 ـ قاعدة الضرر.
بتقريب: ان حق الرجوع يستلزم الضرر فيرتفع بالقاعدة، وافاد (قدس سره) بان حق الرجوع وان لم يكن حكماً وصفياً مجعولاً في نفسه، وانما هو من توابع سلطنة الشخص على ماله الا ان الرجوع من قبل المبذول له يقتضي حرمة تصرف المبذول له في المبذول، واذا كانت هذه الحرمة مستلزمة للضرر فهي مرفوعة بقاعدة الضرر.
2 ـ قاعدة الغرور.
بتقريب: ان بذل الباذل مع وثوق المبذول له بقوله، ورجوعه بعد ذلك تغرير للمبذول له، فله ان يعود عليه بخسارته، لان مقتضى القاعدة المذكورة رجوع المغرور على من غرّه، فللمبذول له الرجوع الى الباذل في ذلك.
3 ـ قاعدة الاتلاف.
بتقريب: ان مقتضى القاعدة ثبوت الضمان لمن اتلف مال الغير، وهذا الاقتضاء واضح فيمن باشر للاتلاف.
ولكن يلحق بصورة المباشرة صورة التسبيب للاتلاف بنحو يكون تأثير السبب اقوى من المباشرة كما في صورة الاكراه.
ويلحق بها ايضاً:
ما اذا كان الشخص سبباً لفعلية الحكم الشرعي الالزامي على غيره الذي لا مفرّ منه له، وهو يوجب صرف المال، فانه يعد من مصاديق اتلاف مال الغير، لانه من صور التسبيب وذلك:
لان السبب لتعلق الحكم الالزامي هو جاعله اي الشارع الا انه اذا لم يكن الحكم الالزامي المزبور فعلياً في حق مكلف بحسب طبعه وسبّب شخص لفعلية الحكم الالزامي المزبور عليه وكان امتثاله من ناحية يستلزم صرف المال، فان المِسببْ حينئذ هو السبب المباشر لصرف مال المكلف فيه وبعبارة اخرى سبب مباشر لاتلافه.
ويكون ذلك نظير:
ان يوجه شخص ناراً ويذهب فيأتي آخر فيوجه النار المذكور الى مال الغير فتحرقها، فانه هو السبب لإحراق مال الغير ولا فرق بينه وبين من اجج بنفسه ناراً واحراق بها مال الغير.
وموردنا من هذا القبيل.
وذلك: لان الحكم الشرعي بلزوم الحج ولزوم المضي في الاحرام بعد تحققه، مجعول من قبل الشارع في نفسه، ولكن الحكم المذكور ليس فعلياً في حق المبذول له قبل البذل بحسب طبعه، لانه لا يكون مستطيعاً، فيكون فاقد لشرط وجوب الحج فليس موضوعاً لوجوبه.
والباذل ببذله انما يسبب لان يصير موضوعاً له، لان بالبذل تحقق شرط وجوب الحج له، ويصير الحكم فعلياً بالنسبة اليه.
وبما ان امتثال هذا الحكم الفعلي يستلزم مصارف، ولا يكون هذه المصارف لولا فعلية الحج مما يصرفه بطبعه، بل كان مما لا يمكن منه لولا البذل.
فاذا كان الباذل هو السبب في تحميل المصارف المذكورة على المبذول له، فكان قد اتلف ماله، فالرجوع بعد البذل اتلاف لماله، ومن اتلف مال الغير فهو له ضامن.
هذا وكان (قدس سره) صرح بان الوجه الاول وهو قاعدة الضرر وهذا الوجه اي قاعدة الاتلاف جارية في صورة الوثوق بعدم الرجوع وصورة عدم وثوقه به.
واما الوجه الثاني: وهو قاعدة الغرور فانما تجري في صورة الوثوق بعدم الرجوع، فاذا حصل الوثوق من كلامه جرت القاعدة، واما في ما اذا لم يحصل له من الابتداء الوثوق بقوله، او كان مشكوكاً فيه لا يكون مجرى القاعدة.
ويمكن ان يقال:
اما بالنسبة الى جواز رجوع الباذل عن بذله معه التلبس بالاحرام فالظاهر ان تأمل صاحب العروة (قدس سره) انما يكون في جواز الرجوع تكليفاً، لانه افاد قبل ذلك: يجوز للباذل الرجوع عن بذله قبل الدخول في الاحرام وافاد في مسألة 42«اذا رجع الباذل في اثناء الطريق، ففي وجوب نفقة العود عليه أو لا وجهان»[2]. وهو ظاهر في تأمله في ضمان الباذل عند رجوعه قبل الاحرام، مع جزمه بجواز الرجوع فيه في مسألتنا.
لكنه (قدس سره) لم يتعرض لحال الضمان اذا رجع بعد الاحرام مع انه تعرض لحكم ما اتى به من الحج بعد رجوع الباذل من مال نفسه او حدث له مال بقدر كفايته فانما يجب عليه الاتمام واجزأه عن حجة الاسلام.
وعليه فيلزم حمل الجواز في كلام في مسألتنا هذه على الجواز تكليفاً و وضعاً.
كما يؤيده ما افاده النائيني (قدس سره) في الحاشية من ان اقوى الوجهين عدم الجواز وافاد بانه يكون مسألتنا هذه كمسألة رجوع الاذن في الصلاة عن اذنه بعد التكبير، فان الرجوع هناك انما يبحث فيه من جهة كونه مؤثراً او لا اثر له ومعنى تأثيره بطلان الصلاة. وقوله: «ان اقوى الوجهين عدم الجواز» اي عدم تأثير الرجوع فيما يترتب عليه من الاثار ومنها بطلان الصلاة كما يظهر من استدلاله بوجوب الاتمام للمصلي بعد الشروع حيث ان مراده ان الرجوع لا يؤثر من حيث قيام المانع الشرعي وهو حرمة قطع الصلاة.
ويشهد له كلام غيره من اعلام المحشين كالمحقق العراقي حيث التزم بالجواز بمقتضى الاصل وقاعدة السلطنة بعد عدم تمامية قاعدة استلزام الاذن بالشيء الاذن بلوازمه.
ثم ان بالنسبة الى حكم الرجوع تكليفاً:
فان الرجوع تخلف عن الوعد، وهو وان كان قبيحاً، الا ان كونه موضوعاً للحرمة للتكليفاً قابل للمناقشة، ونقض العهد الذي عد من الكبائر في صحيحة عبدالعظيم الحسني عن ابيجعفر (عليه السلام) بقوله (عليه السلام) «ونقض العهد وقطيعة الرحم»[3] ربما لا يصدق على نقض الوعد ولذلك افاد السيد الحكيم في شرح قوله صاحب العروة: «وفي جواز رجوعه عنه بعده وجهان».
قال: «احدهما انه وعد والوعد لا يجب الوفاء به».
كما انه ربما يقال: ان بالبذل والعرض يجب الحج على المكلف لصيرورته مستطيعاً، ويلازم وجوب الحج وجوب بقاء الباذل على بذله، والرجوع عنه ترك للواجب وهو حرام، وقد مرّ تقريبه في كلمات الاعلام في مسألة البذل لكنه قد مرّ عدم ثبوت الملازمة، مع عدم اتصاف ترك الواجب بالحرام.
وربما يقال ايضاً: باستلزام الرجوع الاضرار بالغير، وهو محرم تكليفاً. كما مرّ في كلام سيدنا الاستاذ.
ومع فرض تمامية حرمة الاضرار فانه لا شبهة في صدق الاضرار في المقام.
لاستلزام الرجوع، تكلف المبذول له في صرف ماله بما لا يريده ولا يقصد من مثله حسب تعارفه.
وهذا الوجه لو تم فلا يختص بالرجوع بعد التلبس بالاحرام، بل الموضوع محقق حتى قبل تلبسه.
نعم تعرضوا لذلك فی خصوص ما بعد الاحرام من جهة ابتلاء المبذول له بوجوب الاتمام بعد الاحرام على القول به.
هذا ولعل ما افاده المحقق كاشف الغطاء (قدس سره) في الحاشية:
«الجواز محل نظر مطلقاً، ولا سيما بعد الاحرام»[4]
لو كان نظره الى الجواز من حيث التكليف، او ان اطلاق الجواز يشمل ذلك ايضاً كما يشمل بعد الاحرام كقبله.
وهذا الجهة من البحث غير مذكورة في كلمات الاعلام، وان العمدة في اختيارهم عدم الجواز، النظر الى جهة الوضع دون التكليف.
ولعل وجهه ما مر من ان الموضوع للتأثير في المقام هو جهة الوضع، من حيث عدم جواز التصرف في المال المبذول، وترتب الضمان على الباذل وان كان موضوعاً للتكليف ايضاً من حيث سقوط الوجوب عن الحج بالنسبة الى المبذول له، او كشف الرجوع عن عدم وجوبه من الابتداء كما ان اتصاف الرجوع بالحرمة، حسب الوجوه السابقة، وامتنها الاستدلال لها بدليل الضرر، انما يكون فيما اذا كان الباذل قاصداً للاضرار، واما اذا كان قاصداً للبذل ابتداءً ثم عرض عليه ما يوجب رجوعه بلا اختيار له في ذلك، فانه يشكل حينئذٍ ثبوت الحرمة تكليفاً، وهذا بخلاف الوضع حيث ان عروض مثله لا يمنع عن الاثار الوضعية المترتبة عليه.
[1] . السيد محمد الروحاني، المرتقى إلى الفقه الأرقى، كتاب الحج؛ ج1، ص 118-120.
[2] . العروة الوثقي (المحشي)، ج4، ص 404.
[3] . وسائل الشيعة (آل البيت)، ج15، الباب 46 من أبواب جهاد النفس، ص318-321، الحديث20629/2.
[4] . العروة الوثقي (المحشي)، ج4، ص 403.