بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه هفده
وأفاد الشيخ (قدس سره) في جريان البرائة الشرعية في المقام
«وأما الدليل النقلي:
فهو الأخبار الدالة على البراءة ، الواضحة سندا ودلالة ، ولذا عول عليها في المسألة من جعل مقتضى العقل فيها وجوب الاحتياط، بناء على وجوب مراعاة العلم الإجمالي وإن كان الإلزام في أحد طرفيه معلوما بالتفصيل .
وقد تقدم أكثر تلك الأخبار في الشك في التكليف التحريمي والوجوبي.
منها :
قوله ( عليه السلام ) : " ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم ".[1]
فإن وجوب الجزء المشكوك محجوب علمه عن العباد ، فهو موضوع عنهم ، فدل على أن الجزء المشكوك وجوبه غير واجب على الجاهل ، كما دل على أن الشئ المشكوك وجوبه النفسي غير واجب في الظاهر على الجاهل .
ويمكن تقريب الاستدلال : بأن وجوب الأكثر مما حجب علمه ، فهو موضوع.
ولا يعارض بأن وجوب الأقل كذلك ، لأن العلم بوجوبه المردد بين النفسي والغيري غير محجوب ، فهو غير موضوع .
وقوله ( علیه السلام ) : " رفع عن أمتي . . . ما لا يعلمون ".[2]
فإن وجوب الجزء المشكوك مما لم يعلم ، فهو مرفوع عن المكلفين ، أو أن العقاب والمؤاخذة المترتبة على تعمد ترك الجزء المشكوك الذي هو سبب لترك الكل ، مرفوع عن الجاهل . إلى غير ذلك من أخبار البراءة الجارية في الشبهة الوجوبية .
وكان بعض مشايخنا قدس الله نفسه[3] يدعي ظهورها في نفي الوجوب النفسي المشكوك ، وعدم جريانها في الشك في الوجوب الغيري.
ولا يخفى على المتأمل:
عدم الفرق بين الوجوبين في نفي ما يترتب عليه ، من استحقاق العقاب ، لأن ترك الواجب الغيري منشأ لاستحقاق العقاب ولو من جهة كونه منشأ لترك الواجب النفسي .
نعم ، لو كان الظاهر من الأخبار نفي العقاب المترتب على ترك الشئ من حيث خصوص ذاته ، أمكن دعوى ظهورها في ما ادعي.
مع إمكان أن يقال:
إن العقاب على ترك الجزء أيضا من حيث خصوص ذاته ، لأن ترك الجزء عين ترك الكل ، فافهم ... الی ان قال:
ثم إنه لو فرضنا عدم تمامية الدليل العقلي المتقدم، بل كون العقل حاكما بوجوب الاحتياط ومراعاة حال العلم الإجمالي بالتكليف المردد بين الأقل والأكثر ، كانت هذه الأخبار كافية في المطلب حاكمة على ذلك الدليل العقلي ، لأن الشارع أخبر بنفي العقاب على ترك الأكثر لو كان واجبا في الواقع ، فلا يقتضي العقل وجوبه من باب الاحتياط الراجع إلى وجوب دفع العقاب المحتمل . »[4]
هذا ثم ان الشيخ (قدس سره) نقل عن صاحب الفصول حكومة دليل الاحتياط علي هذه الاخبار، ولعل ما افاده صاحب الكفاية (قدس سره) في حاشيته علي الكفاية ، وكذا حاشيته علي الرسائل من عدم جريان مثل حديث الرفع وحديث الحجب فيما اذا كان العقل حاكماً بالاحتياط من حيث تنجيز العلم الاجمالي راجع الي ذلك.
قال (قدس سره):
« وقد توهم بعض المعاصرين عكس ذلك وحكومة أدلة الاحتياط على هذه الأخبار، فقال:
لا نسلم حجب العلم في المقام ، لوجود الدليل في المقام ، وهي أصالة الاشتغال في الأجزاء والشرائط المشكوكة .
ثم قال : لأن ما كان لنا إليه طريق في الظاهر لا يصدق في حقه الحجب قطعا ، وإلا لدلت هذه الرواية على عدم حجية الأدلة الظنية ، كخبر الواحد وشهادة العدلين وغيرهما .
ثم قال: ولو التزم تخصيصها بما دل على حجية تلك الطرق ، تعين تخصيصها - أيضا - بما دل على حجية أصالة الاشتغال : من عمومات أدلة الاستصحاب ، ووجوب المقدمة العلمية .
ثم قال :
والتحقيق : التمسك بهذه الأخبار على نفي الحكم الوضعي وهي الجزئية والشرطية، انتهى.»[5]
وأفاد الشيخ (قدس سره) في مقام الجواب:
«أقول : قد ذكرنا في المتبائنين وفيما نحن فيه: أن استصحاب الاشتغال لا يثبت لزوم الاحتياط إلا على القول باعتبار الأصل المثبت الذي لا نقول به وفاقا لهذا الفاضل.
وأن العمدة في وجوب الاحتياط هو : حكم العقل بوجوب إحراز محتملات الواجب الواقعي بعد إثبات تنجز التكليف ، وأنه المؤاخذ به والمعاقب على تركه ولو حين الجهل به وتردده بين متبائنين أو الأقل والأكثر .
ولا ريب أن ذلك الحكم مبناه وجوب دفع العقاب المحتمل على ترك ما يتركه المكلف ، وحينئذ : فإذا أخبر الشارع - في قوله " ما حجب الله . . . " ، وقوله " رفع عن أمتي . . . " وغيرهما - بأن الله سبحانه لا يعاقب على ترك ما لم يعلم جزئيته ، فقد ارتفع احتمال العقاب في ترك ذلك المشكوك ، وحصل الأمن منه ، فلا يجري فيه حكم العقل بوجوب دفع العقاب المحتمل .
نظير ما إذا أخبر الشارع بعدم المؤاخذة على ترك الصلاة إلى جهة خاصة من الجهات لو فرض كونها القبلة الواقعية ، فإنه يخرج بذلك عن باب المقدمة ، لأن المفروض أن تركها لا يفضي إلى العقاب.
نعم ، لو كان مستند الاحتياط أخبار الاحتياط ، كان لحكومة تلك الأخبار على أخبار البراءة وجه أشرنا إليه في الشبهة التحريمية من أقسام الشك في التكليف.»[6]
[1] . وسائل الشیعة (آل البیت)، ج27، الباب 12 من أبواب صفات القاضی، ص163، الحدیث33496/33.
[2] . وسائل الشیعة (آل البیت)، ج15، الباب 56 من أبواب جهاد النفس، ص369، الحدیث20769/1.
[3] . هو شریف العلماء حسب ما حکاه عنه القزوینی فی ضوابط الاصول، ص329.
[4] . الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج2، ص328-330.
[5] . الشیخ محمد حسین الحائری، الفصول الغرویۀ فی الاصول الفقهیۀ، ص51.
[6] . الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج2، ص330-332.