بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه چهارده
وأفاد في تقريب جريان البرائة في المقام:
«لنا على ذلك : حكم العقل وما ورد من النقل .
أما العقل : فلاستقلاله بقبح مؤاخذة من كلف بمركب لم يعلم من أجزائه إلا عدة أجزاء ، ويشك في أنه هو هذا أو له جزء آخر وهو الشئ الفلاني ، ثم بذل جهده في طلب الدليل على جزئية ذلك الأمر فلم يقتدر ، فأتى بما علم وترك المشكوك ، خصوصا مع اعتراف المولى بأني ما نصبت لك عليه دلالة ، فإن القائل بوجوب الاحتياط لا ينبغي أن يفرق في وجوبه بين أن يكون الآمر لم ينصب دليلا أو نصب واختفى.
غاية الأمر : أن ترك النصب من الآمر قبيح ، وهذا لا يرفع التكليف بالاحتياط عن المكلف .»[1]
ثم انه (قدس سره) أورد علي نفسه اشكالاً:
وهو ان بناء العقلاء كان علي وجوب الاحتياط في الاوامر الصادرة من الاطباء او الموالي، حيث انه اذا امر الطبيب المريض بتركيب معجون بعنوان الدواء فشكّ المريض في جزئية شيء له، مع العلم بأنه غير ضار له، فلو ترك المريض اضافة الجزء المشكوك واكتفي بتركيب ما علم جزئيته استحق اللوم.
وأجاب عنه:
بأن مثل اوامر الطبيب ارشادية ليس المطلوب فيها الا احراز الخاصية المترتبة علي ذات المأمور به، ولا نبحث فيها من جهة الاطاعة والمعصية التي هي موضوع البحث في المقام حيث نبحث في الاوامر الصادرة عن المولي بقصد الاطاعة عن قبح المؤاخذة اذا عجز العبد عن تحصيل العلم بجزء، فاطلع عليه المولي وقدر علي رفع جهله ولو علي بعض الوجوه الغير المتعارفة، ومع ذلك اكتفي بالبيان المتعارف، واختفي ذلك علي العبد لبعض العوارض.
نعم، قد يأمر المولي بمركب، ويعلم ان المقصود منه تحصيل عنوان يشك في حصوله اذا اتي بذلك المركب بدون ذلك الجزء المشكوك، فهنا يرجع الشك في الزائد الي الشك في المحصل، فيلزم تحصيل العلم بإتيان المأمور به علي وجهه.
كما انه اذا امر الطبيب بمعجون وعلم ان المقصود منه اسهال الصفراء، بحيث كان هو المأمور به في الحقيقة، او علم انه الغرض من المأمور به فشك في جزئية شئ له مع فرض عدم كونه مضراً ومخلاً بالغرض، لزمه تحصيل العلم بإتيان المأمور به وضم الزائد.
ثم اورد علي نفسه ثانياً:
بأن الاوامر الشرعية كلها من هذا القبيل، لابتنائها علي مصالح في المأمور به، والمصلحة فيها اما من قبيل العنوان في المأمور به، وإما يكون من قبيل الفرض.
وبتعبير آخر:
« المشهور بين العدلية أن الواجبات الشرعية إنما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقلية ، فاللطف إما هو المأمور به حقيقة أو غرض للآمر ، فيجب تحصيل العلم بحصول اللطف ، ولا يحصل إلا بإتيان كل ما شك في مدخليته .»[2]
وبهذا البيان وهذه الجهة ورد الشيخ في المقام في بحث ابتناء الاحكام علي المصالح والمفاسد في المتعلقات علي مذهب المشهور من العدلية.
وأساس وروده توهم ان الاوامر الصادرة من المولي، اوامر بتحصيل العنوان المقصود منها في المأمور به، وبعبارة اخري تحصيل الغرض من المأمور به فيها نظير اوامر الطبيب، ولذلك كل ما شك في جزئية شئ للمأمور به او شرطية شيء له لرجع الشك فيه الي الشك في تحقق العنوان المذكور والغرض المطلوب في المأمور به، فيرجع الي الشك في المحصل، والوجه فيه لزوم تحصيل العلم بتحقق العنوان والغرض المذكور بالالتزام بالاحتياط وضم الجزء المشكوك اي الاتيان بالاكثر.
وهذا هو الذي قرره صاحب الكفاية (قدس سره) وجهاً بجريان الاحتياط في المقام.
وقد اجاب عن هذا التوهم الشيخ (قدس سره) بما حاصله:
«... أولا : مسألة البراءة والاحتياط غير مبنية على كون كل واجب فيه مصلحة وهو لطف في غيره ، فنحن نتكلم فيها على مذهب الأشاعرة المنكرين للحسن والقبح، أو مذهب بعض العدلية المكتفين بوجود المصلحة في الأمر وإن لم يكن في المأمور به.
وثانيا :
إن نفس الفعل من حيث هو ، ليس لطفا ، ولذا لو اتي به لا على وجه الامتثال لم يصح ولم يترتب عليه لطف ولا أثر آخر من آثار العبادة الصحيحة ، بل اللطف إنما هو في الإتيان به على وجه الامتثال.
وحينئذ : فيحتمل أن يكون اللطف منحصرا في امتثاله التفصيلي مع معرفة وجه الفعل ليوقع الفعل على وجهه - فإن من صرح من العدلية بكون العبادات السمعية إنما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقلية ، قد صرح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه به - وهذا متعذر فيما نحن فيه ، لأن الآتي بالأكثر لا يعلم أنه الواجب أو الأقل المتحقق في ضمنه ، ولذا صرح بعضهم كالعلامة ( رحمه الله ) ( قواعد الاحکام،ج1، ص269 ) ويظهر من آخر منهم ( کالمحقق الثانی فی جامع المقاصد، ج2، ص221 ) : وجوب تميز الأجزاء الواجبة من المستحبات ليوقع كلا على وجهه .
وبالجملة :
فحصول اللطف بالفعل المأتي به من الجاهل فيما نحن فيه غير معلوم، بل ظاهرهم عدمه ، فلم يبق عليه إلا التخلص من تبعة مخالفة الأمر الموجه إليه ، فإن هذا واجب عقلي في مقام الإطاعة والمعصية ، ولا دخل له بمسألة اللطف ، بل هو جار على فرض عدم اللطف وعدم المصلحة في المأمور به رأسا ، وهذا التخلص يحصل بالإتيان بما يعلم أن مع تركه يستحق العقاب والمؤاخذة فيجب الإتيان ، وأما الزائد فيقبح المؤاخذة عليه مع عدم البيان .»[3]
والشيخ (قدس سره) ـ كما عرفت ـ كان في صدد بيان ان الاوامر الشرعية ليست نظير اوامر الطبيب مما يكون المطلوب فيها تحصيل عنوان يشك في حصوله او المطلوب فيها الغرض من المأمور به حتي يرجع الشك في جزئية شيء له الي الشك في المحصل.
كما ان البحث في المقام لا يبتني علي كون الاحكام مبتنية علي المصالح والمفاسد في المأمور به، وإن الواجبات الشرعية الطاف في الواجبات العقلية.
ووجه اصراره علي عدم ابتناء البحث عليه توهم ان تمام البحث في المقام، انما كان في تحصيل بحصول اللطف، لأن المأمور به هو اللطف حقيقة الراجع الي ان المطلوب في الأوامر الشرعية العنوان المفروض في المأمور به، وربما يعبر عنه باللطف او الغرض ليرجع الأمر الي كون الاوامر الشرعية كاوامر الاطباء علي ما مر تفصيله.
ولذا افاد بأنه يجري هذا البحث حتي مع عدم الالتزام بتبعية الاحكام للمصالح والمفاسد النفس الامرية في المتعلقات كما هو مذهب الأشاعرة، او بناء على الالتزام باكتفاء كون المصالح والمفاسد في نفس الأمر، كما هو مذهب غير المشهور من العدلية.
بل ان اساس البحث في المقام انما هو في الاطاعة والمعصية وقبح العقاب على مخالفة التكليف المجهول.
كما انه (قدس سره) افاد بأن مع فرض كون الأوامر الشرعية الطافا كما هو مذهب العدلية، فإنه ربما لا يحصل هذا اللطف اي عنوان المأمور به ـ ليرجع الشك في كل جزء من المركب الى الشك في المحصل في الاتيان بذات العبادة حتى مع قصد امتثاله، لالتزام بعض من العدلية باعتبار قصد الوجه في الفعل المركب بجميع اجزائها وهذا متعذر في موارد الشك في وجوب الجزء ، فيلزم عدم جريان البحث فيه، مع ان البحث جار عليه ايضا لعدم ابتناء بحثنا على لزوم تحصيل اللطف والعنوان المأخوذ في الفعل جزما ، بل البحث انما هو في تحقق العبادة وعدم تحقق العصيان او تحققه بترك الجزء اي عدم الاتيان بالاكثر .
[1] . الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج2، ص318.
[2] . الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج2، ص319.
[3] . الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج2، ص319-320.