بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه صد و سيزده
قال المحقق العراقی (قدس سره):
«لو فقد الملاقى بالفتح فإن كان ذلك بعد العلم الاجمالي بنجاسته أو المشتبه الاخر فلا أثر لفقده بالنسبة إلى ملاقيه.
واما لو كان ذلك قبل العلم الاجمالي كما إذا حصل الملاقاة وفقد الملاقى بالفتح ثم حصل العلم الاجمالي اما بنجاسة المفقود أو المشتبه الاخر.
فعلى مسلك علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية:
لا إشكال في وجوب الاجتناب عن ملاقيه للعلم الاجمالي بالتكليف بينه والطرف وعدم ما يوجب منعه عن التأثير من أصل أو قاعدة اشتغال مثبت للتكليف في بعض أطرافه بعد انعزال العلم الاجمالي السابق بين الملاقى بالفتح و الطرف عن التأثير بحدوثه بعد خروج بعض أطرافه عن الابتلاء.
واما على مسلك الاقتضاء:
فقد يقال بقيام ملاقيه مقامه في وجوب الاجتناب نظرا إلى معارضة الأصل الجاري فيه مع الأصل الجاري في الطرف بعد عدم جريانه في المفقود والخارج عن الابتلاء.
وفيه:
ان عدم جريان الأصل في التالف أو الخارج عن الابتلاء انما هو بالنسبة إلى اثره الخارج عن مورد ابتلا المكلف فعلا من نحو حرمة ارتكابه ووجوب الاجتناب عنه.
واما بالنسبة إلى اثره المبتلى به فعلا كنجاسة ملاقيه فلا بأس بجريان الأصل فيهما بلحاظ هذا الأثر، و لذا ترى بنائهم على إجراء أصالة الطهارة في الماء التالف فعلا عند الابتلاء بأثره من نحو صحة الوضوء به وطهارة البدن والثوب المغسول به بلا التفات منهم إلى الأصول الجارية في نفس الأمور المزبورة.
وعليه نقول:
انه بعد إن كان نجاسة الملاقي بالكسر و وجوب الاجتناب عنه من آثار نجاسة الملاقي بالفتح، تجري فيه أصالة الطهارة بلحاظ هذا الأثر ولو في ظرف تلفه وخروجه بنفسه عن الابتلاء.
فتعارض أصالة الطهارة الجارية في المشتبه الاخر وبعد سقوطهما تصل النوبة إلى الأصل الجاري في المسبب وهو الملاقي بالكسر، فتجري فيه أصالة الطهارة لسقوط معارضها في المرتبة السابقة بالمعارضة مع الأصل الجاري في الملاقى بالفتح كما في صورة عدم فقده.
واما توهم:
ان المجعول في الملاقي بالكسر لا يكون الا طهارة واحدة لا طهارتان لامتناع جعل طهارتين لشئ واحد ومع سقوطها بالمعارضة مع الأصل في الطرف لا يبقى مجال لجريانها ثانيا في الملاقى.
فمدفوع:
بان الممتنع انما هو جعل طهارتين لشئ في عرض واحد واما جعل الطهارتين الطوليتين إحداهما من حيث نفسه والاخرى من حيث سببه بنحو لا يكاد اجتماعهما في مرتبة واحدة بل وزمان واحد، فلا برهان يقتضى امتناعه، والا اقتضى المنع عن جريان أصالة الطهارة فيه حتى في ظرف بقاء الملاقي بالفتح، مع أنه لا يلتزم به المتوهم المزبور أيضا.
ومع الغض عن ذلك نقول:
إنه بعد إن كان لهذه الطهارة الواحدة المجعولة طريقان أحدهما في مرحلة الدلالة والحجية في طول الاخر بحيث لا تصل النوبة إلى الثاني الا بعد سقوط الأول عن الحجية ولو بالتعارض، فلا مانع عن الاخذ بالأصل الجاري في الملاقي بعد سقوط الأصل في الطرف بمعارضته مع الأصل الجاري في الملاقى، لان ذلك هي نتيجة جعل الطريقين الطوليين، والا لا يجري الأصل فيه حتى في ظرف وجود الملاقي بالفتح كما هو ظاهر.
و حينئذ فلا محيص من التفصيل في وجوب الاجتناب عن الملاقى بالكسر عند فقد الملاقى قبل العلم بين المسلكين في العلم الاجمالي.
ولعل إطلاق كلام الشيخ قده بقيام الملاقي بالكسر مقام الملاقى بالفتح عند فقده مبنى على القول بعلية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية كما هو مختاره (قدس سره).
والا فعلى القول بالاقتضاء لا وجه لدعوى قيامه مقام التالف ومعارضة الأصل الجاري فيه مع الأصل الجاري في الطرف، بل اللازم على هذا المسلك هو عدم التفصيل في جريان أصالة الطهارة في المسبب وهو الملاقي بين صورة وجود الملاقى بالفتح وبين صورة فقده أو خروجه عن الابتلاء.
نعم: انما يتجه التفصيل المزبور بين صورة وجود الملاقى وفقده فيما إذا كان الأصل من الأصول غير التنزيلية، كأصالة الحلية على وجه، فإنه بعد عدم جريانهما في التالف بعدم صلاحية التالف لجعل الحلية الظاهرية فيه، ينتهي الامر مع فقده في أصالة الحلية في الملاقي، فتعارض الأصل الجاري في الطرف، وبعد تساقطهما يؤثر العلم الاجمالي بينهما اثره.
ثم لا يخفى: ان ما ذكرنا من وجوب الاجتناب عن ملاقي المفقود على العلية، انما هو في صورة عدم علمه بعود المفقود بعد ذلك وصيرورته مورد ابتلا المكلف، والا ففي فرض عوده في زمان يمكن فيه الامتثال لا يجب الاجتناب عن الملاقي من جهة سقوط علمه حينئذ عن التأثير بسبقه بعلم إجمالي آخر و هو العلم بالتكليف غير محدود في الطرف أو بتكليف محدود في الملاقى بالفتح، فإنه بتأثير هذا العلم في التنجيز يخرج العلم بين الملاقي والطرف عن صلاحية المنجزية، فيرجع الشك بالنسبة إلى الملاقي بدويا تجري فيه أصالة الطهارة كما هو ظاهر.»[1]
واورد علیه سیدنا الاستاذ بوجهین:
«الأول:
ان معارضة الأصول في أطراف العلم الاجمالي ناشئة - على ما تقدم - من استلزام اجرائها في الطرفين الترخيص في المعصية واجراء أحدهما ترجيح بلا مرجح.
ولا يخفى ان هذا المحذور يرتبط بالعلم الاجمالي بالحكم التكليفي الالزامي.
أما العلم الاجمالي بحكم وضعي مردد بين طرفين، فلا يصادم اجراء الأصل النافي لذلك الحكم الوضعي في كلا الطرفين، إذ ليس فيه ترخيص في معصية.
وعليه، فنقول:
مع العلم الاجمالي بنجاسة أحد الشيئين لا مانع من جريان أصالة الطهارة في كليهما في حد نفسها، وإنما المانع من جهة ما يترتب على جريان أصالة الطهرة فيهما من مخالفة التكليف المعلوم المترتب على النجاسة، لان أصل الطهارة يترتب عليه الترخيص في استعمال الطاهر، وهو ينافي العلم بالمنع في أحدهما.
وعلى هذا، ففيما نحن فيه يعلم بنجاسة أحد الإناءين المفقود أو الموجود، لكن هذا العلم ليس علما بتكليف الزامي مردد بين الطرفين، إذ النجاسة على تقدير كونها في الطرف المفقود لا يترتب عليها وجوب الاجتناب لخروجه عن محلا الابتلاء المانع من ثبوت التكليف.
وعليه، فلا معارضة بين أصالة الطهارة في المفقود - على تقدير جريانها -، وأصالة الطهارة في الموجود، لان العلم بالنجاسة بنفسه لا يمنع من إجراء أصالة الطهارة ما لم يكن علما بتكليف إلزامي. فليس لدينا حينئذ علم منجز سوى العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي أو الطرف الاخر الموجود، لأنه علم بتكليف الزامي مردد بين الطرفين، فيمنع من جريان كلا الأصلين في طرفيه.
الثاني:
ان ظاهر دليل قاعدة الطهارة هو الحكم بالطهارة عند تحقق الشك، بحيث يكون ظرف الحكم بالطهارة هو ظرف فعلية الشك - كما هو ظاهر قضية كل حكم وموضوع، فان ظاهرها كون فعلية الحكم عند فعلية موضوعه -. وعليه، فلا دلالة له على الكم بالطهارة السابقة للاناء في الزمان السابق، بحيث تثبت له الطهارة سابقا، فان مقام الاثبات لا يساعد عليه. فأصالة الطهارة لا تجري في المعدوم بلحاظ ظرف وجوده السابق، بحيث تتكفل جعل الطهارة له في الزمان السابق لأنه ليس ظرف الشك. وإنما ظرف الشك فعلي، ولم يؤخذ الشك بنحو الشرط المتأخر للحكم، فغاية ما تتكفله جعل الطهارة له فعلا ومن الآن ولكنه معدوم الآن، فلا يقبل جعل الطهارة له. اذن فجريان أصالة الطهارة في المعدوم لاثبات طهارة ملاقيه أو المغسول به مما لا محصل له.
ودعوى:
انه يمكن ان تتكفل جعل الطهارة فعلا لكن للموجود السابق على العكس من الواجب - المعلق بدعوى أن المحكوم بالطهارة فعلا هو متعلق الشك، ومتعلق الشك فيما نحن فيه هو الوجود السابق للشئ، فيحكم فقط بطهارته - فالحكم فعلي والمتعلق سابق كما أنه في الواجب المعلق يكون الحكم فعليا والمتعلق استقبالي.
مندفعة:
بأنها - على تقدير معقوليتها - لا تنفع في اثبات طهارة الملاقي، لان الذي ينفع هو اثبات الطهارة في ظرف الملاقاة، أما بعد ذلك فلا ينفع في اثبات طهارة الملاقي أو المغسول به. فالتفت.
نعم: هذا الكلام لا يجري في مثل الاستصحاب، إذ يلتزم فيه بأنه يتكفل جعل الحكم في الزمان السابق واللاحق، كموارد الاستصحاب الاستقبالي، ولذا يلتزم بجريانه في المعدوم بلحاظ وجوده السابق وتعلق الشك فيه.
وعلى ما ذكرناه، نقول: انه إذا غسل الثوب باناء مع الغفلة عن طهارته ونجاسته ثم انعدم، وبعد ذلك حصل الشك.
فان كانت الحالة السابقة للماء هي النجاسة جرى استصحاب النجاسة فيه وحكم ببقاء نجاسة الثوب المغسول به.
وان كانت الحالة السابقة له هي الطهارة جرى استصحاب الطهارة فيه وحكم بطهارة الثوب المغسول به.
وإن لم تعلم حالته السابقة، أو كان مما تواردت عليه الحالتان مع الجهل بتأريخهما، لم يمكن جريان الاستصحاب فيه، كما أنه لا يمكن جريان قاعدة الطهارة فيه بلحاظ زمان وجوده، لما عرفت من قصور دليلها، فيتعين اجراء استصحاب النجاسة في الثوب المغسول به، فيعامل معاملة النجس.»[2]
ويمكن ان يقال:
ان ما افاده (قدس سره) في الوجه الاول انما يكون ظاهره الابتناء علي مسلك العلية وايراد المحقق العراقي (قدس سره) علي الشيخ مبتني علي مسلك الاقتضاء، الا انه كان اساس التنجيز علي مسلك الاقتضاء تعارض الاصول المرخصة في اطراف العلم الاجمالي، ووجه التعارض حصول العلم بوجود النجس بين الطرفين واقعاً وان جريانه في احدهما دون الاخر ترجيح بلا مرجح. وهنا ان مدعي السيد الاستاذ ان جريان الاصل، علي فرض جريانه في الطرف المفقود لا يعارض جريان الاصل في الطرف الموجود، ووجهه ان مع فرض فقد احد الاطراف او خروجه عن محل الابتلاء، ليس لنا علم تنجز بتكليف فعلي في البين لفرض فقد بعض اطراف العلم، ومعه لكان الملاقي لطرف المفقود طرفاً للعلم الاجمالي بالنجاسة.
هذا، والمحقق العراقي (قدس سره) يدعي جريان الاصل في الطرف المفقود بلحاظ اثره الموجود، فالتكليف في الطرف المفقود وان ليس احتماله فعلياً بلحاظ نفسه، الا ان بقاء اثره الفعلي يكشف عن فعلية التكليف في الطرف المفقود ايضاً بلحاظ اثره. فالعلم بالتكليف الفعلي بهذه الجهة بين الطرف الموجود والطرف المفقود، انما يتنجز بلحاظ فعلية التكليف في الاثر المترتب علي المفقود، فهو علم ذا اثر فعلي، وهذا هو اساس المنع عن جريان الاصل المرخص في المفقود.
اما بالنسبة الي الوجه الثاني:
فان الطرف المعدوم بلحاظ ظرف وجوده السابق وان لم يكن مجري اصالة الطهارة، ولا يتكفل دليل اصالة الطهارۀ جعل الطهارة في المفقود في الزمان السابق، الا ان المشكل في المقام حدوث الشك الفعلي في الملاقي المسبب عن الشك في الملاقي، والملاقي وان كان مفقوداً الا ان الشك الفعلي باق فيه بلحاظ سببيته للشك الموجود في الملاقي وتمام مدعي المحقق العراقي هو ان بقاء الاثر المترتب علي الملاقي انما يصحح الشك الفعلي الذي هو مجري الاصل فيه للاتصال بينهما بالسببية والمسببيۀ، فالشك في المسبب انما جاء من ناحية الشك في السبب، فالشك في السببب ذا اثر فعلي حالاً، وهو يصحح جريان الاصل في المعدوم بلحاظ رفع الشك في الموجود المسبب عنه.
وما افاده (قدس سره) من عدم تكفل الدليل جعل الطهارة للمعدوم في السابق لعدم كونه ظرفاً للشك لا يفيد بالنسبة الي المقام الذي حدث فيه ظرف جديد للشك المذكور من ناحية المسبب والاثر المترتب عليه.
[1]. الشيخ محمد تقي البروجردي، نهاية الافكار تقرير بحث المحقق ضياء الدين العراقي، ج3، ص363-365.
[2]. الشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم، منتقى الأصول تقرير البحث السيد محمد الروحاني، ج5، ص171-174.