بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه صد و هشت
وأجاب عنه سيدنا الاستاذ (قدس سره):
اما عن الأول: بما حاصله:
ان انعدام الملاقي لا يكون مخلاً بوجوب الاجتناب عن الملاقي، لأن الواجب عليه الاجتناب عن الملاقي بجميع شؤونه، ومع فقد الملاقي لا يتمكن من الاجتناب عنه ببعض مراتبه وإن كانت مرتبة اعلي منها، ومعه لا يجوز له عدم الاجتناب عما يتمكن منه اجتنابه في بعض المراتب. فإذا غاب العام الذي وجب اكرامه وكان تمكن من اكرام خادمه او ولده، فإنه لا يقبل عذره في عدم اكرامهما بفقد نفس العالم.
وعن الثاني:
بالالتزام بمراتب الاجتناب في المقام ايضاً، ببيان ان الاجتناب عن القذر له مرتبتان: المرتبة القصوي وهي الاجتناب عنه مع الاجتناب عن كل ما لاقاه ولو بوسائط.
والاخري: المرتبة الدنيا وهي الاجتناب عنه خاصة دون الاجتناب عن ملاقيه، فإذا اجتنب عنه خاصة وإن كان يصدق انه اجتنب عن النجس الا ان الاجتناب الصادر منه لا يكون بتمام مراتبه عرفاً. وذلك يظهر ما اذا اكرم العالم نفسه ولم يكرم خادمه او ولده، فإنه لم يقدم بإكرامه بجميع شؤونه. [1]
ثم ان سيدنا الاستاذ (قدس سره) بعد ما قوي الوجه الثاني افاد:
« لكن التحقيق : هو ان الالتزام بالوجه الثاني بالتقريبين المتقدمين يبتني على شئ واحد مفقود خارجا ، فإنه يبتني على وجود دليل يدل على لزوم الاجتناب عن النجاسة بهذا العنوان - أعني : بعنوان اجتنب وما شاكله - . وهو مفقود ، إذ الذي ورد في النصوص هو الامر بالغسل أو النهي عن الشرب ، ولم يرد فيها أمر بالاجتناب أصلا. والامر بالغسل لا ظهور له في غسل الملاقي عرفا .
وأما الكتاب الكريم فالذي يتخيل دلالته على الامر بالاجتناب منه آيتان : إحداهما : آية الخمر والميسر ، للتعبير فيها بقوله : ( فاجتنبوه )[2].
ولكن الامر بالاجتناب ههنا ليس من جهة النجاسة قطعا ، لكون موضوعه أمورا أربعة وكلها ليس بنجس عدا الخمر ، فلا يمكن أن يكون الملحوظ هو جهة النجاسة ، بل لا بد أن تكون جهة أخرى جامعة ، وقد عرفت أن مجرد الامر بالاجتناب عن الشئ لا ظهور له في الاجتناب عن ملاقيه ، ولذا لم يحتمل ذلك في باب الغصب ونحوه ، وإنما قلنا إن الامر بالاجتناب بعنوان النجاسة والقذارة ظاهر في ذلك لا غير .
والأخرى : قوله تعالى : ( والرجز فاهجر ).[3]
ودلالتها تبتني على إرادة النجس من الرجز ، وهي محل نظر ، لان الرجز في تفسير اللغويين بمعنى الرجز - بالكسر - ، وهو العذاب ، فيكون المراد الامر بالاجتناب عن العذاب ، وهو كناية عن الامر باجتناب سببه كالامر بالمسارعة إلى المغفرة ، ويراد بها سبب المغفرة .
ولو تنزل عن ذلك: فالذي قيل في تفسيره أيضا : انه بمعنى الرجس ، ولا ظهور له في إرادة النجس منه ، بل يمكن ان يراد منه ما يساوق الرجس في الآية الأولى المحمول على غير النجس ، فيكون الامر امرا بهجر الاثم ونحوه مما يرجع إلى القذارات المعنوية لا الصورية ، وهو لا يدل على لزوم هجر الملاقي .
وجملة القول : ان الوجه الثاني لا دليل عليه في مقام الاثبات .» [4]
ويمكن المناقشة فيه:
اما بالنسبة الي الآية الأولي:
فالآية الشريفة: يا أَيّهَا الّذينَ آمَنُوا إِنّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ اْلأَنْصابُ وَ اْلأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ .
ومما امر بالاجتناب عنه الخمر، والاجتناب عنه انما يكون بالاجتناب عن شربه كما يكون بالاجتناب عما يتعارف في استعماله. والجامع لهما الاستعمالات المتعارفة عرفاً في مورده.
ولا وجه للقول بأن موضوع الاجتناب في الآية امور اربعة وكلها ليس بنجس ماعدا الخمر، فلا يمكن ان يكون الملحوظ هو جهة النجاسة، بل لا بد ان تكون جهة اخري جامعة.
ووجه الاندفاع:
ما عرفت في ما افاده (قدس سره) سابقاً، من ان العناوين المتعددة اذا اشتركت عرفاً في اثر جامع، لكن كانت تختلف باختلاف نحو خصوصيات ذلك الأثر، بمعني ان نحو الأثر المترتب علي احدها كان يختلف عن نحو الأثر المترتب علي الآخر.
مثلاً: العرف يجتنب عن الاسد والسم والقذر، لكن اجتنابه عن الاسد يرجع الي عدم التقريب منه ... واجتنابه عن القذر يرجع الي عدم استعماله، وعدم استعمال ما يلاقيه في باب الأكل والشرب ... .
فإذا نزل الشارع شيئاً منزلة احد هذه الأمور وأمر باجتنابه، فإنه ظاهر في كون مراده النحو المتداول عرفاً عن المنزل عليه.
ونحن نقول بعين هذا الكلام في المقام، حيث ان الشارع امر بالاجتناب عما نزله منزلة الخمر والميسر و ... فلا محالة يكون مراده من الاجتناب النحو المتداول عرفاً عن الخمر، وهو كما يتحقق بعدم الشرب كذلك بعدم استعماله، كما انه (قدس سره) افاد: بأنه اذا قال هذا نجس فاجتنبه كان ظاهراً في امره باجتنابه بالنحو الذي يجتنب العرف للقذاران الحقيقية الصورية لأنه نزله منزلته. وقد عرفت ان اجتناب العرف القذارات الصورية يعم الاجتناب عن ملاقيها بنحو يكون الاجتناب عن الملاقي من شؤون الاجتناب عن القذر.
وفي المقام قال الشارع ان هذا رجس فاجتنبه، فلا محالة يلزم ان يكون ظاهراً في امره باجتنابه بالنحو الذي يجتنب العرف للقذارات العرفية، لأنه نزل الخمر منزلة الرجس، وإن اجتناب العرف للقذارات الصورية يعم الاجتناب عن ملاقيها.
[1] . الشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم، منتقى الأصول تقرير البحث السيد محمد الروحاني، ج5، ص153.
[2] . سورۀ المائدۀ، الآیۀ90.
[3] . سورۀ المدثر، الآیۀ 5.
[4] . الشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم، منتقى الأصول تقرير البحث السيد محمد الروحاني، ج5، ص155-156.