بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه هشتاد و شش
اما المقام الثاني من البحث:
وهو مقتضي الاصول العملية عند الشك في الابتلاء.
فقد مر من صاحب الكفاية (قدس سره): انه لو شك في الابتلاء كان المرجع هو البرائة لعدم القطع بالاشتغال، وأن المقام مقام الشك في اعتبار الابتلاء في صحة التكليف، وهذا ما ايّده الشيخ (قدس سره) بقوله: «فعند الاشتباه لا يعلم المكلف بتنجز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي». كما افاد ايضاً بقوله:
« نعم، يمكن أن يقال عند الشك في حسن التكليف التنجيزي عرفا بالاجتناب وعدم حسنه إلا معلقا: الأصل البراءة من التكليف المنجز، كما هو المقرر في كل ما شك فيه في كون التكليف منجزا أو معلقا على أمر محقق العدم، أو علم التعليق على أمر لكن شك في تحققه أو كون المتحقق من أفراده.»[1]
وظاهر ما افاده صاحب الكفاية (قدس سره) في المتن، انه لو شك في الابتلاء بمعني الشك في كون التكليف مبتلي به بالنسبة اليه اولا في مثل المقام، نظير ما علم اجمالاً بأن داراً مغصوبة مرددة بين الدار التي يريد المكلف شرائها، وبين دار اخري في بلد آخر يشك في دخولها في محل الابتلاء، فشك في تنجيز العلم الاجمالي وأن مشكوك الابتلاء هل هو بحكم معلوم الابتلاء او انه محكوم بحكم مقطوع الخروج عن محل الابتلاء فهو مجري البرائة. لرجوع الشك فيه الي الشك في التكليف وتنجزه، وعدم القطع بالاشتغال.
ثم افاد (قدس سره) في المتن بأنه لا وجه هنا للتمسك باطلاق الخطاب، لأن التمسك بالاطلاق انما يتفرع علي صحة الاطلاق في نفسه ثبوتاً ليكون مقام الاثبات كاشفاً عن مقام الثبوت، وأما مع الشك في صحة ثبوت الحكم في حد نفسه فلا مجال للتمسك بالاطلاق في اثباته.
وبعبارة اخري:
ان الاطلاق انما يتكفل مقام الاثبات دون مقام الثبوت، فلابد من احراز صحة ثبوت الحكم اولاً والتمسك بالاطلاق لاثباته بعد ذلك.
قال المحقق العراقي (قدس سره):
«الثاني من وجوه المنع عن التمسك بالاطلاق ما أفاده المحقق الخراساني قدس سره في كفايته، من أن صحة الرجوع إلى الاطلاق انما هو فيما إذا شك في التقييد بشي بعد الفراغ عن صحة الاطلاق بدونه، لا في الشك في تحقق ما هو معتبر جزما في صحته.
وحاصله بتحرير منا هو ان القدرة على موضوع التكليف بكلا قسميها من العقلية والعادية كما انها شرط في صحة الخطاب الواقعي وتشريع الحكم النفس الامري و بدونها يقبح التكليف ويستهجن الخطاب بعثا وزجرا، كذلك شرط في الخطاب الظاهري الدال على إيجاب التعبد بظهور الخطاب أو صدوره أيضا، ولذا لا يصح التعبد بالظهور أو الصدور في الخارج عن الابتلاء لعدم ترتب أثر عملي حينئذ على التعبد بمثله، وحينئذ فكما ان الخطاب الواقعي مشكوك مع الشك في القدرة على موضوع التكليف، كذلك الخطاب الظاهري الدال على إيجاب التعبد بظهوره مشكوك أيضا.
فان مرجع التعبد بظهور الخطاب انما هو إلى جعله طريقا إلى الواقع مقدمة للعمل ومع الشك في القدرة على موضوع التكليف يشك في الأثر العملي فلا يقطع بحجية الخطاب حتى يجوز التمسك به لاثبات التكليف الفعلي في المورد المشكوك فيه.
فمرامه (قدس سره) في المنع عن التمسك بالاطلاق انما هو من جهة عدم إحراز قابلية المورد إثباتا لحجية الخطاب مع الشك في القدرة التي هي شرط أيضا للحكم الظاهري، لا انه من جهة اشتراط إحراز قابلية الحكم النفس الامري للاطلاق على وجه يعم المشكوك فيه.
وعليه لا وجه:
لرمي كلامه بالغرابة بمخالفته لما عليه ديدن الأصحاب من التمسك بالمطلقات واستكشاف الاطلاق النفس الامري من إطلاق الكاشف، والاشكال عليه باقتضائه لسد باب التمسك بالمطلقات و العمومات اللفظية كلية.
إذ ما من مورد يشك في قيدية شئ الا ويرجع الشك فيه إلى الشك في إمكان تسرية الحكم النفس الامري إلى حالة عدمه خصوصا على مذهب العدلية من تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد الكائنة في متعلقاتها، لملازمة الشك في قيدية شئ للشك في ثبوت المصلحة الموجبة للتقييد به المستلزم على تقدير ثبوتها في الواقع لامتناع الاطلاق للنفس الامري على وجه يشمل حال عدمه.
كما لا وجه للاعتراض عليه بمنافاة ذلك لما بنى عليه في مبحث العام و الخاص من جواز التمسك بالعموم والاطلاق فيما إذا خصص أو قيد بأمر لبي عقلي أو غيره كقوله لعن الله بني أمية قاطبة مع حكم العقل بقبح لعن المؤمن، بدعوى ان الملاك جاز في جميع القيود العقلية و ليس لعدم الابتلاء خصوصية.
لوضوح الفرق بين المقامين، فان المخصص العقلي هناك بقبح لعن المؤمن يكون مقيدا لخصوص الحكم الواقعي فجاز التمسك بإطلاق اللعن لاثبات عدم إيمان من شك في إيمانه من تلك الشجرة الخبيثة وتسرية الحكم النفس الامري بالنسبة إليه.
بخلاف حكمه باعتبار القدرة التي هي شرط للحكم الظاهري أيضا، فإنه مع الشك فيها يشك في الحكم الظاهري، فلا يقطع بحجية الخطاب حتى يجوز التمسك بإطلاقه لاثبات فعلية التكليف للمشكوك فيه هذا.
ولكن فيه ان ما أفيد من شرطية القدرة عقلا في الخطابات الظاهرية انما يتم على القول بالموضوعية.
واما على ما هو التحقيق فيها من الطريقية الراجعة إلى مجرد الامر بالبناء العملي على مطابقة الظهور للواقع بلا جعل تكليف حقيقي في البين، فلا يلزم محذور، فان مرجع الامر المزبور حينئذ إلى كونه منجزا للواقع في صورة المصادفة مع كونه إيجابا صوريا في فرض عدم المصادفة.
ومن الواضح انه مع الشك في القدرة على موضوع التكليف لا محذور في توجيه مثل هذا التكليف إلى المكلف فتأمل و لازمه بمقتضى العلم الاجمالي هو الاجتناب عن الطرف المبتلى به عقلا.»[2]
وحاصل اشكاله علي صاحب الكفاية بعد توجيه كلامه ودفع ما اورد عليه من الايرادات:
ان ما افاده من عدم تمامية التمسك باطلاق الخطاب في المقام انما يتم علي مسلك السببية، وأما بناءً علي الطريقية الراجعة الي مجرد الأمر بالبناء العملي علي مطابقة الظهور للواقع بلا جعل تكليف حقيقي في البين فلا يتم.
فإن الأمر المزبور امر صوري يعبر عنه بالحكم الاصولي وهو يتكفل تنجيز الواقع علي تقدير المصادفة، وهو لا محذور فيه مع الشك في القدرة.
[1]. الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج2، ص237.
[2]. الشيخ محمد تقي البروجردي، نهاية الافكار تقرير بحث المحقق ضياء الدين العراقي، ج3، ص345-346.