بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه هشتاد و سه
فافاد سيدنا الاستاذ في المنتقي:
«... إن الامتناع:
تارة: يكون عقليا، ويقابله القدرة العقلية، وهي مما لا شبهة في اعتبارها في التكليف.
وأخرى: يكون عاديا ويراد به هو امتناع الفعل عقلا بحسب الوضع العادي للانسان، وان كان الفعل ممكنا عقلا بطريقة غير عادية، وذلك كالطيران إلى السماء. وهذا ما أرجعه صاحب الكفاية إلى الامتناع العقلي والقدرة العقلية. وهي بحكم النحو الأول.
وثالثة: يكون عاديا بمعنى ما لا يلتزم به خارجا بحسب العادة، كالخروج إلى السوق بلا نعل، وهذا لا يمنع من التكليف قطعا.
وجميع ذلك ليس محل كلامنا، بل محل الكلام فيما نحن فيه هو: ما كان الفعل لا يتحقق من المكلف عادة لعدم ابتلائه به، مع امكان ان يصدر منه عقلا، كشرب الماء في الاناء الموجود في أقاصي الهند.
ويصطلح على اعتبار الدخول في محل الابتلاء باعتبار القدرة العادية. وقد وقع الكلام في اعتبارها في التكليف.
فذهب الشيخ وتبعه غيره إلى اعتبارها فيه.
وقد اختلف التعبير عن بيان وجه الاعتبار، فامتناع التكليف بغير ما هو محل الابتلاء. والعمدة فيه هو اللغوية الواضحة المعبر عنها في بعض الكلمات بالاستهجان العرفي، إذ الغرض من التكليف هو ايجاد الداعي إلى الفعل أو الترك، وهذا المعنى لا يتحقق فيما إذا كان الفعل خارجا عن محل الابتلاء كما لا يخفى.
وقد وقع الخلط بين ما نحن فيه وبين بعض الموارد، فتخيل البعض سراية هذا الاشكال إلى موردين.
أحدهما: تكليف العصاة.
والاخر: في الواجبات التوصلية التي تصدر من المكلف بحسب طبعه بداع آخر. وذلك ببيان: ان التكليف وإن كان هو عبارة عن جعل ما يمكن أن يكون داعيا أو زاجرا، إلا أن الغرض الأقصى منه هو تحقق الداعوية والزاجرية، بحيث يكون له تأثير فيهما، وإلا كان لغوا محضا.
فمع العلم بعدم تحقق الداعوية أو الزاجرية يمتنع جعل التكليف، ومورد العصاة كذلك للعلم بعدم انزجارهم بالنهي وتحركهم بالأمر. فيكون تكليفهم لغوا.
وهكذا في الواجبات التوصلية التي يكتفي فيها بمجرد الفعل، إذا علم بتحقق الفعل من المكلف بداع آخر، فان التكليف في مثل ذلك لا يترتب عليه غرضه الأقصى من التحريك نحو الفعل، فيكون لغوا. ولا يخفى ان اللغوية المدعاة ههنا هي لغوية دقية لا عرفية، ولذا لا يتخيل أحد من العرف استهجان تكليف العاصي ونحوه.
وعلى كل حال، فتحقيق الكلام في هذين الموردين ان يقال:
أما مورد العصيان: فلا يخفى ان الغرض الأقصى من الشئ ليس غرضا فلسفيا، بحيث يكون من علل الشئ الذي يوجب تخلفه تخلف المعلول، بل هو فائدة وأثر الشئ، فهو غرض عرفا.
وعليه، فمجرد احتمال ترتبه على الفعل يكفي في صحة الفعل والاقدام عليه، بل أعمال العقلاء جلا تبتني على احتمال ترتب الفوائد عليها، كتصدي التجار للبيع، فإنه لا يقطع بتحقق البيع أو الربح، مع إقدامهم عليه وليس هو إلا من جهة كفاية احتمال الفائدة. ففي مورد العصاة إذا احتمل الامتثال كفى ذلك غرضا أقصى للتكليف.
ومع عدم احتماله والعلم بعدم امتثال الأمر والنهي يمكن ان يقال بان فائدة التكليف والغرض الأقصى منه هو القاء الحجة وقطع العذر، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. نظير التاجر الذي يتصدى للبيع، وهو يعلم بعدم تحقق الربح أو البيع دفعا لملامة الناس ونسبة الخمول والكسل إليه. وأما مورد الواجبات التوصلية فيكفي في رفع اللغوية احتمال صدور الفعل عن التكليف.
نعم، في المورد الذي يعلم بصدوره بداع آخر لا بداعي الامتثال، لا مناص من الالتزام بعدم صحة الوجوب، لأنه لغو لا أثر له.
ودعوى: ان الغرض من التكليف تكميل النفوس الحاصل بالاتيان بالفعل بقصد الامتثال والإطاعة الموجبة لقرب العبد من مولاه.
وحينئذ يمكن ان تكون فائدة التكليف التوصلي في الغرض المزبور هو تمكين المكلف من الاتيان به بداع الامر الموجب لكمال النفس وتطهيرها.
مندفعة: بان الغرض الملزم في الواجبات التوصلية ليس إلا ما يترتب على الفعل ذاته من مصلحة، والمفروض ان ذلك يتحقق ولو لم يكن أمر.
أما الاتيان بالفعل بداعي الامر، فهو لم يصل إلى حد الالزام في الواجبات التوصلية، بحيث يكون منشئا للإيجاب، ولذا كان الواجب توصليا لا عباديا. فالتفت.
ولا يخفى عليك ان ما ذكر في حل الاشكال في هذين الموردين لا يتأتى فيما نحن فيه، وهو ما إذا كان الفعل خارجا عن محل الابتلاء، فان التكليف لا فائدة فيه أصلا لعدم ترتب الداعوية عليه، ولا ترتب غيرها من الفوائد. ولأجل ذلك يكون التكليف مستهجنا عرفا.
فالوجه في امتناع التكليف في مورد الخروج عن محل الابتلاء هو الاستهجان العرفي المسبب عن لغويته وعدم الأثر له.
وقد ذهب المحقق الأصفهاني ( قدس سره ) إلى: عدم صلاحية الاستهجان العرفي لمنع ثبوت التكليف في مورد الخروج عن محل الابتلاء، لعدم ارتباط حقيقة التكليف بالعرف بما هم أهل العرف.
وليس الكلام في مفهوم الخطاب كي يكون المرجع فيه هو العرف كما تقرر، بل الكلام في واقع التكليف وصحته ثبوتا فلا مسرح لنظر العرف.
وفيه:
أولا: ان الاستهجان العرفي المدعى ههنا لا يرجع إلى تحكيم نظر العرف المبنى على المسامحة كي لا يعتمد عليه، بل المحذور المدعى هو لغوية التكليف، وهي من الواضح بنحو يدركها العرف فيستهجن ثبوت التكليف.
فالاستهجان العرفي راجع إلى وضوح اللغوية لدى الجميع، والعمل اللغو مستهجن من الحكيم، في قبال اللغوية التي لا تدرك إلا بالدقة، كاللغوية المدعاة في تكليف العصاة. وبالجملة: المحذور فيما نحن فيه عقلي يلتفت إليه الجميع. فالتفت.
وثانيا:
ان التكليف إذا كان مستهجنا عرفا يكفي ذلك في امتناع ثبوته وتوجهه إلى عامة الناس، لأنهم لا يؤمنون بصدوره مع بنائهم على أنه مستهجن، فلا يصلح الداعوية أصلا، والمفروض ان من يتوجه إليه التكليف هو الجميع.
وأما ما جاء في الدراسات في مقام نفي اعتبار الدخول في محل الابتلاء، وعدم اعتبار أزيد من القدرة العقلية، من: ان الغرض من التكليف الشرعي ليس مجرد حصول متعلقه فعلا أو تركا كالتكليف العرفي، بل الغرض منه هو تكميل النفوس البشرية بجعل التكليف داعيا للعبد إلى الفعل أو الترك، فيحصل له القرب من مولاه ويرتفع مقامه.
ففيه: ان هذا لو تم، فإنما يتم في خصوص الواجبات دون المحرمات، إذ الفعل المحرم إذا كان خارجا عن محل الابتلاء بنحو لا تحدثه نفسه بارتكابه لم يصلح النهي لزجر المكلف عنه وصرفه عن ارتكابه، إلا بعد تصدي المكلف لا يجاد الرغبة النفسية في فعله، كي ينصرف عنه ببركة النهي الشرعي، فلو كان الغرض من النهي ما ذكر، للزم في مثل هذه الحال على المكلف ايجاد الرغبة إلى فعل المحرم وتهيئة مقدماته، ثم ينصرف عنه بزاجرية النهي.
وهذا لا يمكن أن يتفوه به، فان ايجاد مقدمات الحرام بما هي مقدمات له مرجوح، بل ثبت تحريم بعضها نفسيا كمقدمات عمل الخمر.
هذا مع عدم تماميته في الواجبات التوصلية كما عرفت. فراجع. وجملة القول: انه لا اشكال في عدم صحة التكليف في مورد الخروج عن محل الابتلاء وجوبيا كان أو تحريميا للاستهجان العرفي، الذي تقدم بيانه.
والمراد بالخروج عن محل الابتلاء المانع من التكيف ليس كون الشئ خارجا عنه فعلا بحيث لا ابتلاء للمكلف به بحسب وضعه الفعلي، بل هو كون الشئ خارجا عن ابتلائه بحسب العادة بنحو لا يكون في معرض الدخول في محل الابتلاء عادة.
فمثل الاناء في بيت جاره وإن لم يكن محل ابتلائه فعلا، لأنه لا يرفع احتياجه بشرب ماء جاره، بل بشرب ماء داره، ولكنه في معرض كونه في محل الابتلاء عادة، لحصول التزاور بين الجيران، ففي مثل ذلك لا يمتنع التكليف، لعدم كونه مستهجنا عرفا لاحتمال ترتب الفائدة عليه وهو كاف في رفع اللغوية. نعم، الاناء في بلد لا يذهب إليه عادة يكون خارجا عن محل ابتلائه، فيمتنع التكليف في مورده.
وهذا أفضل ما يمكن أن يقال في تحديد ضابط الخروج عن محل الابتلاء المانع من التكليف. فالتفت.»[1]
[1] . الشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم، منتقى الأصول تقرير البحث السيد محمد الروحاني، ج5، ص126-131.