بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه هشتاد و يك
ويمكن أن يقال:
ان الاستطاعة بمعناها العرفي وكل ما اخذ فيها شرعاً او عرفاً ما كان دخيلاً في التمكن المزبور، والتمكن انما يكون بمعنى ما لا مشقة له فيه وكان سهلاً عليه.
ولذا افاد السيد المرتضى في الناصريات:
« وايضاً قوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت} والاستطاعة في عرف الشرع وعهد اللغة أيضا عبارة عن تسهيل الأمر وارتفاع المشقة فيه، وليست بعبارة عن مجرد القدرة.
ألا ترى أنهم يقولون: ما أستطيع النظر إلى فلان، إذا كان يبغضه ويمقته ويثقل عليه النظر إليه، وإن كانت معه قدرة على ذلك.
وكذلك يقولون:
لا أستطيع شرب هذا الدواء، يريدون إنني أنفر منه ويثقل علي. وقال الله تعالى: (إنك لن تستطيع معي صبرا) وإنما أراد هذا المعنى لا محالة.»[1]
فمعنى الاستطاعة التمكن العرفي من الاتيان بالحج ومعنى التمكن العرفي ليس القدرة الفعلية او القدرة الشرعية، بل القدرة العرفية بمعنى عدم صعوبة الامر للمكلف عرفاً، اي سهل له الاتيان به فالحج واجب لمن سهل له ذلك عرفاً لا لمن صعب عليه اتيانه وهذه السهولة انما تتحقق بالتمكين من الزاد والراحلة وصحة البدن والرجوع الى كفاية وامثال ذلك، وانما كان اعتبار هؤلاء لأجل ان عدم تحقق هذه الأُمور ينافي سهولة الاتيان به فاذا كان الاتيان بالحج اي صرف المؤونة فيه يوجب عدم رجوعه الى كفاية او عدم تأمين عياله او قصور في معيشته وحرفته، فلا محالة لا يقال عرفاً انه يسهل عليه الاتيان بالحج، فلا يكون له التمكن العرفي وهذا المعنى شرط في وجوب الحج فلا يكلف به من كان له صعوبة ومشقة في اتيانه.
إذا اعرفت هذا، فان من يرى هذا التمكن لنفسه وسهولة الاتيان بالحج عرفاً فهو يكلف بإتيانه ويصير الامر بالحج فعلياً بالنسبة اليه.
واحتمال انتفاء هذا التمكن، اي هذه السهولة بعد تحققه في المستقبل ينتفي بأصالة بقاء التمكن في الجهات المذكورة، لا من جهة جريان والاستصحاب الإستقبالي، بل من جهة بناء العقلاء على ذلك في امورهم.
فاذا خرج للحج وبدأ بإعماله، فهو أقدم على الاتيان حائزاً للشرط اي صار وجوب الحج فعلياً بالنسبة اليه.
ومعنى بقاء الاستطاعة بعد شروع الاعمال الى تمامها، عرفاً بقاء امكان الاتيان به، اي سهولة الامر فيه وبمعنى آخر عدم صعوبته بالنسبة اليه.
وهذا انما يكون لرعاية المكلف بمعنى انه يستلزم الاتيان بالحج كلفة ومشقة بالنسبة اليه في اداء التكليف، فاذا فرض انتفاء تمكنه بعد شروع الاعمال، فان كان بمعنى عدم قدرته على الاتيان بباقي الاعمال، مثل عدم قدرته على الحركة بمرض، فانه يلزمه الاتيان الاعمال بواسطة غيره ولا يسقط عنه الامر بوجوب الحج.
ومن الواضح صحة البدن دخيل في الاستطاعة، ولكن يتبدل تمكن نفسه بتمكن غيره من دون ان يوجب ذلك سقوط الامر بالحج.
وكذا لو ماتت راحلة في اثناء الحج ولم يتمكن من شراء راحلة أخرى، فانه لا يمنع عن تمكنه بالنسبة الى الاتيان بباقي الاعمال ولا يسقط عنه الامر بالحج، لأنه وان ربما يقع في صعوبته في ايابه عن الحج الا انه لا مشقة له في الاتيان بالأعمال بتمامها.
وكذا لو سمع في اثناء الاعمال خراب داره، او حرفته وصناعته بسيل او حريق او وقوع عائلته في صعوبة لأجل معيشتهم، فانه لا يمنعه عن اتمام الاعمال، لأنه لبعد الطريق لا يتمكن من مساعدتهم، بل ربما لا يتمكن من الخروج عن مكة قبل تمام الاعمال لفقد من يهديه الطريق مثلاً، فان هذه الامور وان كانت لو حصلت قبل الخروج الى الحج لمنعت عن استطاعته لانتقاء التمكن العرفي بالمعنى المزبور بالنسبة اليه الا انها لا تمنع من امكان الاتيان بباقي الاعمال.
وهذا واضح بالنسبة الى الاستطاعة العرفية، فان من يحتاج لعلاج ولده الى السفر الى بلد نائي فإنما يرونه مستطيعاً اذا تمكن من السفر ومن مصارف العلاج، ولا محالة ان مثل صحة بدنه و كفاية اهله وبقاء مهنته وتجارته وصنعته الى مراجعته دخيل في ذلك اي لا يرونه مستطيعاً اذا لم يتمكن من جهة احد هذه الأمور.
والمعيار في قضاوتهم وحكمهم ذم من كان ولده مريضاً وهو يتمكن عرفاً من
علاجه ولم يقدم على ذلك ولو بالسفر الى بلاد نائية.
فاذا فرض الاخلال في بعض هذه الامور بعد سفره ومبادرته الى العلاج في تلك البلاد وكان سمع ذلك حين العلاج، وكان قد تمكن ولو بوجه من الصعوبة إتمام العلاج، فاذا قطع العلاج ورجع بمجرد سماع ذلك، فهل يذمونه اهل العرف ويلومونه او يمدحونه؟
ولهم ان يقولون، ان بعد صرف مخارج السفر كان الاحسن والارجح، بل كان الصحيح اتمام العلاج لعدم امكان حصول هذا التمكن، اي التمكن من هذا السفر له بعد ذلك.
وليس ذلك الا ان انتفاء التمكن العرفي لا يوجب انتفاء مقتضاه في جميع الموارد.
وفي المقام ايضاً كذلك، فان المقتضي للوجوب الاستطاعة بمعنى التمكن العرفي، وقد حصل الى وقت الشروع بالأعمال، ولا وجه لسقوط مقتضاه اي وجوب الحج بعد امكان اتمام الاعمال ولو بغير سهولة، ففي مثل المقام لا وجه لسقوط الفعلية عن وجوب الحج بعد الابتداء بالأعمال واتمام العمل وان كان ربما يستلزم الحرج او الضرر بالنسبة الى الامثلة في انتفاء تمكنه، الا انه لا يتم رفع الامر بهذه العناوين لما مر في كلمات الاعلام من ان رفعه خلاف الامتنان بالنسبة اليه بعد شد الرحال وتحمل المشقات في الوصول الى الحج.
وبالجملة:
ان المراد من الاستطاعة عدم الصعوبة في الاتيان بالحج عرفاً وامكان العرفي لإتيانه.
ولذا نلتزم بان من حضر مكة في الموسم ولو اتفاقاً وامكنه الاتيان بأعمال الحج فإنما يجب عليه الحج لصدق الاستطاعة بالنسبة اليه عرفاً. واما مثل رجوعه الى كفاية، وكيفية معاشه فيما انه لا يتفاوت الامر فيهما بالنسبة الى اتيانه بالحج او عدم اتيانه.
فدخل هذه الامور انما كان من جهة حصول التمكن العرفي من الاتيان بالحج.
وعليه فان القول بالإجزاء ولو مع انتفاء بعض ما له دخل في الاستطاعة حين الاعمال ليس ببعيد.
ويشهد عليه ما مر في كلام السيد الحكيم (قدس سره) من سكوت النصوص عن التعرض لذلك، مع كثرة الطواري الحادثة في كل سنة على بعض الحجاج من مرض وتلف مال ونحو ذلك مما يوجب زوال الاستطاعة، مع الغفلة عن ذلك، وارتكاز المتشرعة على صحة الحج.
كما يشهد عليه فتاويهم بلزوم اخذ النائب لمن لا يتمكن من اتمام الاعمال بمرض مما يكشف عن بقاء الامر وامثال ذلك.
واما ما قرب به صاحب العروة مما ورد من ان من مات بعد الاحرام ودخول الحرم اجزأه عن حجة الاسلام.
ومراده ما رواه الكليني عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن ابن رئاب، عن ضريس، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:
في رجل خرج حاجا حجة الاسلام فمات في الطريق، فقال: إن مات في الحرم فقد أجزءت عنه حجة الاسلام وإن [ كان ] مات دون الحرم فليقض عنه وليه حجة الاسلام.[2]
وكذا ما رواه بالإسناد المذكور عن ابن رئاب، عن بريد العجلي، قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل خرج حاجا ومعه جمل له ونفقة وزاد فمات في الطريق قال: إن كان صرورة ثم مات في الحرم فقد أجزء عنه حجة الاسلام.
وإن كان مات و هو صرروة قبل أن يحرم جعل جمله وزاده ونفقته وما معه في حجة الاسلام فإن فضل من ذلك شئ فهو للورثة إن لم يكن عليه دين....[3]
ومثله ما رواه محمد بن محمد بن النعمان المفيد في المقنعة قال: قال الصادق (عليه السلام):
من خرج حاجا فمات في الطريق فإنه إن كان مات في الحرم فقد سقطت عنه الحجة، فان مات قبل دخول الحرم لم يسقط عنه الحج، وليقض عنه وليه.[4]
ووجه استناد صاحب العروة الى هذه الاخبار ولو بعنوان التقريب ان مفاد هذه الاخبار كفاية الدخول في الحرم عن حجة الاسلام لمن مات بعد دخوله فيه.
وقد افاد صاحب الوسائل في عنوان بابه: «ان من وجب عليه الحج فمات بعد الاحرام و دخول الحرم اجزأ عنه، وان مات قبل ذلك وجب ان يقضي حجة الاسلام عنه من اصل المال، ولا يجب قضاء التطوع». وحيث ان في مثل المقام تنتفي الموضوعية لوجوب الحج بانتفاء الحياة، فاذا فرض انتفاء الموضوعية من غير جهة الحياة كانتفاء الاستطاعة لكفى عن حجة الاسلام.
ويؤيد هذه الاخبار ما ورد في ابواب النيابة من ان النائب اذا مات بعد الاحرام ودخول الحرم اجزأت عن المنوب عنه.
نظير ما رواه محمد بن يعقوب، عن أبي علي الأشعري، عن محمد بن عبد الجبار، عن صفوان ابن يحيى، عن إسحاق بن عمار قال: سألته عن الرجل يموت فيوصي بحجة فيعطي رجل دراهم يحج بها عنه فيموت قبل أن يحج، ثم أعطى الدراهم غيره، فقال: إن مات في الطريق أو بمكة قبل أن يقضي مناسكه فإنه يجزي عن الأول.[5]
وفي مرسلة ابن أبي عمير وباسناده عن يعقوب بن يزيد، عن ابن أبي عمير، عن ابن أبي حمزة، والحسين بن يحيى عمن ذكره، عن أبي عبد الله (عليه السلام) في رجل أعطى رجلا مالا يحج عنه فمات، قال: فان مات في منزله قبل أن يخرج فلا يجزي عنه، وإن مات في الطريق فقد أجزأ عنه[6].
والمهم في الاخبار الواردة بهذا اللسان احتمال كونها في مقام بيان ان من ادرك بعض اعمال الحج فقد ادركها جميعاً كاللسان الوارد ببيان ان من ادرك ركعة من الصلوة في الوقت لكفي عنه الواجب عليه.
بمعني ان من ادرك بعض اعمال الحج حائزاً لشرائطه فقد ادرك الحج كمن ادرك ركعة من الصلوة في الوقت اي حائزاً لشرط الوقت كان كمن ادرك الصلوة في جميع وقتها.
فيكون الاتيان ببعض الافعال في حال كونه موضوعاً للوجوب كالاتيان بتمامها في حال كونه موضوعاً.
والحيوة شرط في التكاليف والموضوع لها المكلف الحي، فاذا ادرك بعض الافعال في حال حيوته كان كمن ادرك جميعها في الاجزاء والكفاية عن حجة الاسلام.
وقد ورد نظير ذلك ايضاً بلسان ان من ادرك المشعر يوم النحر قبل زوال الشمس فقد ادرك الحج. ومن ادرك يوم عرفة قبل زوال الشمس فقد ادرك المتعة في صحيحة جميل بن دراج.[7] وكثير من الاخبار الواردة في ما ذكره صاحب الوسائل بعنوان باب حكم من فاته الوقوف بعرفة او بالمشعر قبل طلوع الشمس.
وقد مر قول صاحب العروة في حج الصبي.
« قد عرفت أنه لو حج الصبي عشر مرات لم يجزه عن حجة الإسلام، بل يجب عليه بعد البلوغ والاستطاعة، لكن استثنى المشهور من ذلك ما لو بلغ وأدرك المشعر فإنه حينئذ يجزي عن حجة الإسلام، بل ادعى بعضهم الإجماع عليه، وكذا إذا حج المجنون ندبا ثم كمل قبل المشعر، واستدلوا على ذلك بوجوه:...»[8]
وجعل من جملة الوجوه الاخبار الدالة علي ان من ادرك المشعر فقد ادرك الحج.
والحاصل:
ان من الممكن تصوير ان مدلول هذه الاخبار كفاية الاتيان ببعض افعال الحج جامعاً للشرائط عن تمام الحج.
وتنزيل الاتيان بالبعض منزلة الاتيان بالكل من حيث الواجدية للشرائط.
نعم، يمكن ان يقال:
بان اللازم هنا في مقام الاستدلال تنقيح المناط من شرط الحيوة الي سائر الشرائط، كالتمكن من الزاد او الراحلة او الاياب وامثال ذلك.
وحيث ان اسراء الحكم من موضوع الي موضوع يحتاج الي تنقيح المناط، وهو يتوقف علي عدم احتمال خصوصية في الموضوع الذي نريد تنقيح المناط منه.
كما انه لقائل ان يقول انه لاخصوصية في شرطية الحيوة، بل الاساس في ذلك انتقاء الموضوعية للحكم وهو كما يتحقق بانتقاء الحيوة كذلك يتحقق بانتقاء سائر الشرائط كالامور المحققة للاستطاعة.
وعليه فلا يرد علي صاحب العروة القول بانه قياس او انه اجنبي عن المسئلة بالمرة وامثال ذلك من الايرادات الواردة في الحواشي.
[1] . الشريف المرتضي، الناصريات، ص304.
[2] . الشيخ الكليني، الكافي، ج4، الباب ما يجزئ من حجة الاسلام وما لا يجزئ، ص276، الحديث10.
[3] . الشيخ الكليني، الكافي، ج4، الباب ما يجزئ من حجة الاسلام وما لا يجزئ، ص276، الحديث11.
[4] . وسائل الشيعة (آل البيت)، ج11، الباب 26 من أبواب وجوب الحج وشرائطه، ص68-69، الحديث14261/1 و14262/2 و 14264/4.
[5] . وسائل الشيعة (آل البيت)، ج11، الباب 15من أبواب النيابة في الحج، ص185، الحديث14581/1.
[6] . وسائل الشيعة (آل البيت)، ج11، الباب 15من أبواب النيابة في الحج، ص186، الحديث14584/4
[7] . وسائل الشيعة (آل البيت)، ج14، الباب 23 من أبواب وقوف في المشعر، ص40، الحديث18535/8.
[8] . العروة الوثقي (المحشي)، ج4، المسالة 7، ص 350.