بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه هفتاد و نه
وقال الشيخ (قدس سره) في فرائد الاصول: في التنبيه الثالث من تنبيهات الشبهة المحصورة.
«ولو كان التكليف في أحدهما معلوما لكن لا على وجه التنجز، بل معلقا على تمكن المكلف منه، فإن ما لا يتمكن المكلف من ارتكابه لا يكلف منجزا بالاجتناب عنه.
كما لو علم بوقوع النجاسة في أحد شيئين لا يتمكن المكلف من ارتكاب واحد معين منهما، فلا يجب الاجتناب عن الآخر، لأن الشك في أصل تنجز التكليف، لا في المكلف به تكليفا منجزا.
وكذا: لو كان ارتكاب الواحد المعين ممكنا عقلا، لكن المكلف أجنبي عنه وغير مبتل به بحسب حاله، كما إذا تردد النجس بين إنائه وإناء آخر لا دخل للمكلف فيه أصلا، فإن التكليف بالاجتناب عن هذا الإناء الآخر المتمكن عقلا غير منجز عرفا، ولهذا لا يحسن التكليف المنجز بالاجتناب عن الطعام أو الثوب الذي ليس من شأن المكلف الابتلاء به.
نعم، يحسن الأمر بالاجتناب عنه مقيدا بقوله: إذا اتفق لك الابتلاء بذلك بعارية أو تملك أو إباحة فاجتنب عنه.
والحاصل: أن النواهي المطلوب فيها حمل المكلف على الترك مختصة - بحكم العقل والعرف - بمن يعد مبتلى بالواقعة المنهي عنها، ولذا يعد خطاب غيره بالترك مستهجنا إلا على وجه التقييد بصورة الابتلاء.
ولعل السر في ذلك:
أن غير المبتلي تارك للمنهي عنه بنفس عدم ابتلائه، فلا حاجة إلى نهيه، فعند الاشتباه لا يعلم المكلف بتنجز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي.
وهذا باب واسع ينحل به الإشكال عما علم من عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة المحصورة في مواقع، مثل ما إذا علم إجمالا بوقوع النجاسة في إنائه أو في موضع من الأرض لا يبتلي به المكلف عادة، أو بوقوع النجاسة في ثوبه أو ثوب الغير، فإن الثوبين لكل منهما من باب الشبهة المحصورة مع عدم وجوب اجتنابهما، فإذا أجرى أحدهما في ثوبه أصالة الحل والطهارة لم يعارض بجريانهما في ثوب غيره، إذ لا يترتب على هذا المعارض ثمرة عملية للمكلف يلزم من ترتبها مع العمل بذلك الأصل طرح تكليف متنجز بالأمر المعلوم إجمالا.
ألا ترى: أن زوجة شخص لو شكت في أنها هي المطلقة أو غيرها من ضراتها جاز لها ترتيب أحكام الزوجية على نفسها، ولو شك الزوج هذا الشك لم يجز له النظر إلى إحداهما، وليس ذلك إلا لأن أصالة عدم تطليقه كلا منهما متعارضان في حق الزوج، بخلاف الزوجة، فإن أصالة عدم تطلق ضرتها لا تثمر لها ثمرة عملية.
نعم، لو اتفق ترتب تكليف على زوجية ضرتها دخلت في الشبهة المحصورة، ومثل ذلك كثير في الغاية.
ومما ذكرنا يندفع ما تقدم من صاحب المدارك ( رحمه الله ): من الاستنهاض على ما اختاره - من عدم وجوب الاجتناب في الشبهة المحصورة - بما يستفاد من الأصحاب: من عدم وجوب الاجتناب عن الإناء الذي علم بوقوع النجاسة فيه أو في خارجه، إذ لا يخفى أن خارج الإناء - سواء كان ظهره أو الأرض القريبة منه - ليس مما يبتلي به المكلف عادة.
ولو فرض كون الخارج مما يسجد عليه المكلف التزمنا بوجوب الاجتناب عنهما، للعلم الإجمالي بالتكليف المردد بين حرمة الوضوء بالماء النجس وحرمة السجدة على الأرض النجسة.
ويؤيد ما ذكرنا: صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه ( عليهما السلام )، الواردة في من رعف فامتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه، هل يصلح الوضوء منه ؟ فقال ( عليه السلام ): " إن لم يكن شئ يستبين في الماء فلا بأس به، وإن كان شيئا بينا فلا ".
حيث استدل به الشيخ ( قدس سره ) على العفو عما لا يدركه الطرف من الدم، وحملها المشهور على أن إصابة الإناء لا يستلزم إصابة الماء، فالمراد أنه مع عدم تبين شئ في الماء يحكم بطهارته، ومعلوم أن ظهر الإناء وباطنه الحاوي للماء من الشبهة المحصورة.
وما ذكرنا، واضح لمن تدبر.
إلا أن الإنصاف: أن تشخيص موارد الابتلاء لكل من المشتبهين وعدم الابتلاء بواحد معين منهما كثيرا ما يخفى. ألا ترى: أنه لو دار الأمر بين وقوع النجاسة على الثوب ووقوعها على ظهر طائر أو حيوان قريب منه لا يتفق عادة ابتلاؤه بالموضع النجس منه، لم يشك أحد في عدم وجوب الاجتناب عن ثوبه، وأما لو كان الطرف الآخر أرضا لا يبعد ابتلاء المكلف به في السجود والتيمم وإن لم يحتج إلى ذلك فعلا، ففيه تأمل.
والمعيار في ذلك وإن كان صحة التكليف بالاجتناب عنه على تقدير العلم بنجاسته وحسن ذلك من غير تقييد التكليف بصورة الابتلاء واتفاق صيرورته واقعة له، إلا أن تشخيص ذلك مشكل جدا.
نعم، يمكن أن يقال عند الشك في حسن التكليف التنجيزي عرفا بالاجتناب وعدم حسنه إلا معلقا: الأصل البراءة من التكليف المنجز، كما هو المقرر في كل ما شك فيه في كون التكليف منجزا أو معلقا على أمر محقق العدم، أو علم التعليق على أمر لكن شك في تحققه أو كون المتحقق من أفراده كما في المقام.
إلا أن هذا ليس بأولى من أن يقال:
إن الخطابات بالاجتناب عن المحرمات مطلقة غير معلقة، والمعلوم تقييدها بالابتلاء في موضع العلم بتقبيح العرف توجيهها من غير تعلق بالابتلاء.
كما لو قال: " اجتنب عن ذلك الطعام النجس الموضوع قدام أمير البلد " مع عدم جريان العادة بابتلاء المكلف به.
أو: " لا تصرف في اللباس المغصوب الذي لبسه ذلك الملك أو الجارية التي غصبها الملك وجعلها من خواص نسوانه".
مع عدم استحالة ابتلاء المكلف بذلك كله عقلا ولا عادة، إلا أنه بعيد الاتفاق.
وأما إذا شك في قبح التنجيز فيرجع إلى الإطلاقات.
فمرجع المسألة إلى: أن المطلق المقيد بقيد مشكوك التحقق في بعض الموارد - لتعذر ضبط مفهومه على وجه لا يخفى مصداق من مصاديقه، كما هو شأن أغلب المفاهيم العرفية - هل يجوز التمسك به أو لا ؟
والأقوى: الجواز، فيصير الأصل في المسألة وجوب الاجتناب، إلا ما علم عدم تنجز التكليف بأحد المشتبهين على تقدير العلم بكونه الحرام.
إلا أن يقال: إن المستفاد من صحيحة علي بن جعفر المتقدمة كون الماء وظاهر الإناء من قبيل عدم تنجز التكليف، فيكون ذلك ضابطا في الابتلاء وعدمه، إذ يبعد حملها على خروج ذلك عن قاعدة الشبهة المحصورة لأجل النص، فافهم.»[1]
[1]. الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج2، ص234-239.