بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه شانزده
وأساس القول بالتخيير العقلي ذلك، اي فقدان الترجيح لأحد الملاكين اذ لو كان ملاك الترك اقوي فيقدم الترك، وإن كان ملاك الفعل اقوي فيقدم الفعل، وأساس الاشكال علي هذه المقالة في كلام الاعلام، مثل المحقق النائيني والمحقق العراقي والسيد الاستاذ (قدس الله اسرارهم)، هو ان مورد دوران الأمر بين المحذورين هو مورد دوران الأمر بين الفعل والترك.
وفي دوران الأمر بينهما فبما ان الترك حاصل او ان احدهما قهري الحصول. لأن المكلف اما ان يأتي بالفعل او يتركه، والترك حاصل فلا محالة يكون الالزام بأحدهما تحصيلاً للحاصل.
او ان العلم الاجمالي في المقام لا يتكفل للتنجيز والداعوية والباعثيه لعدم امكان باعثية الملكف به بعين الوجه.
وهذا المعني باختلاف تعابيره:
مثل ان التخيير بين الفعل والترك في المقام ليس ناشئاً عن ملاك يقتضيه مثل كلام النائيني (قدس سره) في الفوائد.
« وأما الوظيفة العقلية : فلأن التخيير العقلي إنما هو فيما إذا كان في طرفي التخيير ملاك يلزم استيفائه ولم يتمكن المكلف من الجمع بين الطرفين كالتخيير الذي يحكم به في باب التزاحم - وفي دوران الأمر بين المحذورين ليس كذلك ، لعدم ثبوت الملاك في كل من طرفي الفعل والترك.»[1]
او قوله:
« وهو ـ التخيير العقلي ـ فيما إذا لم يكن بين الشيئين جامع خطابي كما إذا دار الأمر بين وجوب أحد الشيئين وحرمة الآخر أو وجوب أحد الشيئين ووجوب شئ آخر لا يجمعهما جنس قريب. وإما تخييرا عقليا وهو فيما إذا كان بين الشيئين جامع خطابي كما إذا دار الأمر بين وجوب إكرام هذا العالم أو ذلك العالم، فإنه يصح التكليف باكرام العالم مبهما ، فيكون المكلف مخيرا عقلا في إكرام أحد الفردين أو الأفراد .»
وكذا ما افاده (قدس سره) هناك.
«يعتبر في تأثير العلم الإجمالي أن يكون المعلوم بالإجمال صالحا لتشريعه كذلك ، أي على ما هو عليه من الإجمال .
فان كان المعلوم بالإجمال غير صالح لتشريعه كذلك وكان قاصرا عن أن يكون داعيا ومحرما لإرادة العبد ، فالعلم الإجمالي المتعلق به لا يقتضى التأثير والتنجيز وكان وجوده كعدمه ، كما في موارد دوران الأمر بين المحذورين ، فان التكليف المردد بين وجوب الشئ أو حرمته قاصر عن أن يكون داعيا ومحركا نحو فعل الشئ أو تركه ، لأن الشخص بحسب خلقته التكوينية لا يخلو عن الفعل أو الترك ، فلا يصح تشريع التكليف على هذا الوجه ، لأن تشريع التكليف على هذا الوجه لا أثر له ولا يزيد على ما يكون المكلف عليه تكوينا.»
وتكون حاصله:
ان في موارد التزاحم بين مصلحتين ثابتتين، او مصلحة ثابتة ومفسدة ثابتة، كوجوب اكرام هذا العالم او ذاك العالم، او وجوب هذا الشيء وحرمة شيء اخر، يحكم العقل بالتخيير بلا شبهة، وأما في المقام فإن الملاك في طرفي الأمر غير ثابت ومحتمل، لأن الفعل اما يشمل علي المصلحة فيجب الاتيان به او حامل للمفسدة فيلزم تركه، وبما ان كل واحد من الملاكين محتمل فلا معني للتزاحم، ولا يندرج المورد في تزاحم الملاكين.
وفي خصوص هذه الجهة يمكن ان يقال:
انه لو ورد اكرم عالماً بحيث كان هنا ملاك واحد لإكرام عالم، ويتردد المكلف بين اكرام هذا او ذاك، حيث كان هناك عالمان قابلان كل واحد منهما للإكرام، ولكنه ليس لنا الا مصلحة واحدة لإكرام عالم. فإذا تردد المكلف لحكم العقل بالتخيير واكرام اي واحد منهما شاء، وهذا انما يتم لو لم يكن لأحدهما رجحان لجلب الملاك المفروض كونه واحداً، وكذا لو تردد بين وجوب هذا وحرمة ذاك بتعدد المتعلق، مع العلم بأنه ليس هنا الا ملاك واحد، وهو اما المفسدة في ذاك او المصلحة في هذا. فيتردد بينهما فما نقول في هذا المثال، مع ان لنا العلم الاجمالي بثبوت احدهما، فمع فقدان الترجيح لأحد الملاكين يحكم العقل بالتخيير. اما مع الترجيح مثل ان دفع المفسدة مثلاً اولي من جلب المصلحة، وقد مر ان له اصل عقلائي فيرجح جانب المفسدة.وعليه فما المانع من اندراج دوران الأمر بين المصلحة علي تقدير ثبوتها والمفسدة علي تقدير ثبوتها في المورد، فإن من المعلوم ثبوت احدهما وإن المكلف ملزم اما بجلب المصلحة او دفع المفسدة. ولذلك كان الموضوع في هذه المورد قابلاً للترجيح. كما مر في تقريب ترجيح جانب النهي، فهنا يمكن القول بأن في كل مورد حكم العقل بالترجيح لمزية في احد المحتملين، لكان قادراً بالحكم بالتخيير مع فقد المزية.
وببيان اخر لتبيين حكم العقل، اي ادراك القوة العاقلة في مثل المقام. انه لو كان للشخص طفل مريض مشرف بالموت، وهنا طبيبان حكم احدهما بلزوم العملية الجراجية لبقائه، وحكم الآخر بكونها مخطورة بالنسبة اليه وموجباً لموته، فتردد بين قوليهما.فهنا احتمالان مقتضي الادراك العقلي التحقيق في وجدان رجحان لأحد الاحتمالين، ومن المعلوم ان المصلحة في العملية الجراجية او المفسدة فيها محتملان، وليس الثابت في الواقع الا احدهما، فمقتضي الحكم العقلي او الزامه، وبتعبير صحيح ادراكه هو الفحص والتحقيق، ومع فرض عدم وجود رجحان في احد الجانبين، فإنما يدرك العقل التخيير، وفائدة هذا التخيير انه لو كان واحد من الاحتمالين انجر الي موت الولد فإن الشخص لا يلوم نفسه، بخلاف اذا لم يتفحص عن صحة القولين ووجدان مزية لأحدهما، فإن التخيير هنا ادراك عقلي، وإنما ينشأ عن فقدان الرجحان لأحد المحتملين وعدم امكان رعاية الاحتمالين معاً.
هذا وأما قضية ان في دوران الأمر بين الفعل والترك لا يمكن تصوير تنجيز العلم وداعويته:
فقد افاد السيد الخوئي (قدس سره) في تصوير جريان البرائة في المقام.
«ففي المقام وان لم يكن الشارع متمكنا من وضع الالزام بالفعل والترك معا ، ولكنه متمكن من وضع الالزام بكل منهما بخصوصه ، وذلك يكفي في قدرته على رفعهما معا ، وحينئذ فلما كل كل واحد من الوجوب والحرمة مجهولا ، كان مشمولا لأدلة البراءة ، وتكون النتيجة هو الترخيص في كل من الفعل والترك .»[2]
وهذا البيان وإن افاده في مقام تصوير الرفع الذي يبتني علي امكان الجعل، الا انه شاهد علي امكان تصوير الجعل والالزام بالنسبة الي كل واحد من الفعل والترك. وإذا امكن الالزام بالنسبة الي كل واحد منهما.
فإنما يتصور الالزام بأحدهما. والجعل والتشريع بلزوم الأخذ بأحدهما لا محالة.
ولا فرق في امكان التشريع والالزام بين العقل والشرع، فإن المهم هنا امكان الالزام، وأفاد السيد بأن رفع الحرمة والوجوب في مثل المقام في المتمكن يتمكن تصوير الجعل فيهما.
هذا مع انه لا شبهة في امكان تعلق الالزام بالترك كالفعل ومثاله جميع المحرمات، والمشكل انما نشأ من وحدة المتعلق، وإن احد الطرفين وهو الترك حاصل، وإن المكلف بحسب تكونيه لا يخلو امره من الفعل او الترك، فلا اثر لهذا الجعل ولا تنجيز ولا داعويةللعلم الاجمالي بأحدهما، ولكنه يمكن ان يقال:
ان الترك بدواً وان كان حاصلاً، وإنما كان ذلك في جميع المحرمات، الا ان الفرض من النهي الزجر عن تبديل هذا الترك بالفعل في الاستمرار، كما ان الفرض من الأمر البعث بتبدل الترك بالفعل، وفي صورة وحدة المتعلق وإن كان احدهما وهو الترك حاصلاً بدواً، وإن المكلف يدور امره تكويناً بين الفعل والترك، وهو قهراً اما ان يترك وإما ان يفعل، فلا اثر لداعوية العلم الاجمالي هنا، الا ان الاثر انما يظهر في الاستمرار وتعدد الواقعة، فإنه اذا ترك في واقعة وفعل في واقعة اخري، فإنما وقع في المخالفة القطعية التي هي الاساس في التنجيز للعلم عند المحقق النائيني (قدس سره).
هذا كله مع ان العقل كما يدرك وجوب الموافقة القطعية للتكليف عند امكانها.
كذلك يدرك في نفس المقام اي مقام الاطاعة وجوب الموافقة الاحتمالية في الامتثال دون ترك الموافقة ولو احتمالاً. وكذا انه يدرك ترك المخالفة القطعية، وكذا ترك المخالفة الاحتمالية مع امكانهما، وفي مقام الترتيب بينهما فإنما يدرك الوقوع في المخالفة الاحتمالية حذراً عن المخالفة القطعية.
وعليه ففي مثل المقام، وإن لم يتمكن المكلف من الموافقة القطعية الا انه يتمكن من الموافقة الاحتمالية الي الموافقة الاحتمالية. وإنما يتنزل تنجيز العلم وداعويته مع عدم امكان الموافقة الاحتمالية، وصرف امكان الموافقةالاحتماليه يكفي في تنجيز العلم وداعويته.
وبالجملة، انه لا مانع من ادراك العقل التخيير في مثل المقام، وجريان ضابط التخيير في التزاحم هنا، وهذا يفترق مع حكمه بالتخيير بمعني اللاحرجية، كما هو ظاهر الاعلام، ويقوي ما افاده صاحب الكفاية (قدس سره) من حكم العقل بالتخيير، بمقتضي عدم الترجيح وعدم وجود رجحان لأحد المحتملين.
[1]. الشيخ محمد علي الكاظمي، فوائد الاصول تقرير البحث السيد النائيني، ج3، ص444-445.
[2]. البهسودي، مصباح الاصول تقرير البحث السيد الخوئي، ج2، ص331.