بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه سيزده
اما القول الثالث:
وهو التخيير بين الوجوب والحرمة شرعاً.
والمهم في هذا القول انه لم يرد من الشارع امر بالتخيير في دوران الأمر بين المحذورين، واستفادة الأمر به في المقام كان بمقتضي تنقيح المناط في ما ورد في الخبرين المتعارضين، واسراء الحكم منه الي المورد لوحدة المناط فيهما، وإن كان ربما عبر عنه بالقياس او التنظير.
وعمدة ما يوجه به هذا القول امور:
الاول:
ان المناط في الحكم بالتخيير في الخبرين المتعارضين بقوله (عليه السلام): وبأي منهما اخذت من باب التسليم وسعك[1]، مجرد ابدائهما احتمال الوجوب والحرمة، ويسري هذا الحكم الي كل مورد ظهر فيه ابدائهما، و المقام منه، وقد عرفت ذكره في كلام صاحب الكفاية، وقرره الوجه المصحح لقياس المورد بباب تعارض الخبرين، وإن كان نفسه (قدس سره) تأمل فيه.
الثاني:
ان الملاك في الحكم بالتخيير في الخبرين عدم خلو الواقع عن الحكمين المذكورين في الخبرين، ويلزم عدم خروج الحكم عنهما بمقتضي الدلالة المطابقية في الاخبار العلاجيّة، وهذا المناط جار بعينه في المقام.
الثالث:
ان المستفاد من الأخبار العلاجية بالدلالة الالتزامية نفي الثالث، فلا يتم الالتزام الا بأحدهما، وفي المقام حيث انه يدور الأمر في الواقع بين الحكمين، فيلزم عدم الالتزام الا بأحد الحكمين اعني الوجوب والحرمة وعدم الخروج عنهما.
الرابع:
ان رعاية الحكم الظاهري وهو الحجية، انما يدل بالفحوي علي رعاية الحكم الواقعي، فإذا ثبت التخيير بين الحجتين في مقام التعارض وعدم طرحهما، فإنما يثبت الحكم بالتخيير في دوران الأمر بين الحكمين الواقعيين بالطريق الأولي.
قال الشيخ (قدس سره):
« ومن هنا يبطل قياس ما نحن فيه بصورة تعارض الخبرين الجامعين لشرائط الحجية الدالة أحدهما على الأمر والآخر على النهي، كما هو مورد بعض الأخبار الواردة في تعارض الخبرين.
ولا يمكن أن يقال: إن المستفاد منه - بتنقيح المناط - وجوب الأخذ بأحد الحكمين وإن لم يكن على كل واحد منهما دليل معتبر معارض بدليل الآخر.
فإنه يمكن أن يقال: إن الوجه في حكم الشارع هناك بالأخذ بأحدهما، هو أن الشارع أوجب الأخذ بكل من الخبرين المفروض استجماعهما لشرائط الحجية، فإذا لم يمكن الأخذ بهما معا فلا بد من الأخذ بأحدهما، وهذا تكليف شرعي في المسألة الأصولية غير التكليف المعلوم تعلقه إجمالا في المسألة الفرعية بواحد من الفعل والترك، بل ولولا النص الحاكم هناك بالتخيير أمكن القول به من هذه الجهة، بخلاف ما نحن فيه، إذ لا تكليف إلا بالأخذ بما صدر واقعا في هذه الواقعة، والالتزام به حاصل من غير حاجة إلى الأخذ بأحدهما بالخصوص.
ويشير إلى ما ذكرنا من الوجه: قوله ( عليه السلام ) في بعض تلك الأخبار: " بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك".
وقوله ( عليه السلام ): " من باب التسليم " إشارة إلى أنه لما وجب على المكلف التسليم لجميع ما يرد عليه بالطرق المعتبرة من أخبار الأئمة ( عليهم السلام ) -.
كما يظهر ذلك من الأخبار الواردة في باب التسليم لما يرد من الأئمة ( عليهم السلام )، منها قوله: " لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويه عنا ثقاتنا "-، وكان التسليم لكلا الخبرين الواردين بالطرق المعتبرة المتعارضين ممتنعا، وجب التسليم لأحدهما مخيرا في تعيينه.
ثم إن هذا الوجه وإن لم يخل عن مناقشة أو منع، إلا أن مجرد احتماله يصلح فارقا بين المقامين مانعا عن استفادة حكم ما نحن فيه من حكم الشارع بالتخيير في مقام التعارض، فافهم.»[2]
وأساس ما افاده (قدس سره):
عدم تمامية تنقيح المناط، وأنه لولا النص لم نلتزم بالتخيير في ذاك المقام ايضاً.
ويفترق ما نحن فيه عما جري هناك بأن اساس التخيير في المقام الأخذ بما صدر واقعاً لأن الواقع لا يخلو منهما.
ولكن في ذلك المقام ان اساس التخيير عدم الخروج عن اختيار ما صدر عنهم (عليهم السلام) في الواقعة، ولذا افاد بأن مناط التخيير هناك التسليم بما ورد عنهم، وعدم جواز التعذير في التشكيك فيما روي عنهم (عليهم السلام).
وقد افاد السيد الخوئي:
«وأما القول الثاني – وهو الحكم بالتخيير شرعا ـ، ففيه:
انه إن أريد به التخيير في المسألة الأصولية أعني بأحد الحكمين في مقام الافتاء نظير الاخذ بأحد الخبرين المتعارضين، فلا دليل عليه. وقياس المقام على الخبرين المتعارضين مع الفارق لوجود النص هناك دون المقام، فالافتاء بأحدهما بخصوصه تشريع محرم.
وإن أريد به التخيير في المسألة الفرعية أعني الاخذ بأحدهما في مقام العمل بأن يكون الواجب على المكلف أحد الامرين تخييرا من الفعل أو الترك، فهو أمر غير معقول، لأن أحد المتناقضين حاصل لا محالة، ولا يعقل تعلق الطلب بما هو حاصل تكوينا.
ولذا ذكرنا في محله انه لا يعقل التخيير بين ضدين لا ثالث لهما لان أحدهما حاصل بالضرورة، ولا يعقل تعلق الطلب به.»[3]
ويمكن ان يقال:
اما بالنسبة الي ما افاده اولاً:
فإن المدعي عنه القائل بالتخيير شرعاً في المقام – وحسب تعبيره تبعاً للشيخ ـ التخيير في المسألة الاصولية تنقيح المناط الجاري في باب الخبرين المتعارضين للتخيير في المقام، وإن مناط التخيير هناك قابل للجريان في دوران الأمر بين المحذورين بمقتضي الوجوه التي ذكروها، والا فإن القائل به يعلم انه ليس لنا نص دال علي التخيير في المقام، فلا يتم دفع هذه المقالة بصرف عدم الدليل وأنه قياس بباب الخبرين.
كما انه قد ظهر ان مع فرض الالتزام بتنقيح المناط واسراء الحكم لا يلزم اي تشريع.
وأما بالنسبة الي ما افاده ثانياً.
فإن الترك في مقام الدوران بين الترك والفعل، وإن كان حاصلاً الا ان هذا الحصول بدوي قابل للنقض بالفعل، ومع تعلق الطلب بابقاء الترك وعدم نقضه بالفعل، ليس تعلق الطلب به لغواً والا لزوم لغوية جميع النواهي، حيث ان متعلق الطلب فيها الترك او الزجر عن العقل، ولا شبهة في عدم لغوية هذا الطلب بعد ما كان المطلوب فيه الزجر او الترك بقاءً.
[1]. وسائل الشیعة (آل البیت)، ج27، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، ص108، الحدیث33339/6.
[2]. الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج2، ص181-183.
[3]. البهسودي، مصباح الاصول تقرير البحث السيد الخوئي، ج2، ص329.