بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه نه
وأفاد سيدنا الاستاذ دفعاً لما اجيب به عن العلمين النائيني والاصفهاني:
«... ولكن هذا الايراد عليهما بدوي، إذ يمكن توجيه كلامهما بما يرتفع به الايراد فنقول:
انه بناء على أن النهي عبارة عن الزجر عن الفعل لا طلب الترك - كما يراه صاحب الكفاية - يكون مورد الوجوب والحرمة شيئا واحدا وهو الفعل. إذن فالجامع بين الوجوب والحرمة معلوم التعلق بالفعل، والفعل يعلم بورود الجامع بينهما عليه، ولنسمه الالزام - تبعا للاعلام -، فالالزام الجامع يعلم تفصيلا بتعلقه بالفعل. وإنما الشك في خصوصية الالزام من وجوب أو حرمة.
ولا يخفى عليك ان هذا الالزام لا أثر له عملا بعد تردده بين الوجوب والحرمة، فلا يكون سببا للتنجز ولا منشئا للمؤاخذة على المخالفة، لما عرفت من أنه مما لا يتمكن المكلف من موافقته ومخالفته العملية القطعية، ومما لا يخرج المكلف عن موافقته ومخالفته الاحتمالية. إذن فانطباق الالزام واقعا على أي الاحتمالين من الوجوب والحرمة لا أثر له.
وعليه، فان أريد اجراء البراءة من خصوصية الوجوب أو الحرمة. ففيه:
ان اجراء البراءة من كل منهما باعتبار جهة الالزام والكلفة التي فيه، وهي معلومة بالفرض.
وإن أريد إجراء البراءة بملاحظة الشك في انطباق الالزام المعلوم على الوجوب أو على الحرمة، نظير الشك في انطباق النجس المعلوم على أحد الإناءين. ففيه:
ان الانطباق الواقعي على كل من الحكمين إذا لم يكن بذي أثر - كما عرفت - فلا معنى لنفيه ورفعه بدليل البراءة مع الشك فيه، لأنه لا يمكن وضع الالزام.
وإن أريد اجراء البراءة بملاحظة الالزام المعلوم المتعلق بالفعل. ففيه:
أولا: انه معلوم تفصيلا.
وثانيا: انه مما لا يمكن جعل الاحتياط بالنسبة إليه ومما لا يتمكن من امتثاله.
وهذا البيان لا يتأتى بناء على كون النهي عبارة عن طلب الترك، لاختلاف متعلق الالزام المعلوم، إذ الوجوب والحرمة لا يردان على شئ واحد، فكل من الفعل والترك مشكوك الالزام، فقد يقال بجريان البراءة فيه لعدم العلم بالالزام في كل طرف، نظير تردد الوجوب بين تعلقه بالظهر والجمعة.
ولكن لا يمكن الالتزام بجريان البراءة حتى على هذا المبنى، وذلك لان الحكم بالبراءة شرعا انما هو بملاحظة جهة التعذير عن الواقع، وبملاك معذورية المكلف بالنسبة إلى الواقع المحتمل، وهذا إنما فيما كان احتمال التكليف قابلا لداعوية المكلف وتحريكه نحو المكلف به، بحيث يكون المكلف في حيرة منه وقلق واضطراب، فيؤمنه الشارع، أما إذا لم يكن الامر كذلك، بل كان المكلف آمنا لقصور المقتضي فلا معنى لتأمينه وتعذيره.
وما نحن فيه كذلك، لان احتمال كل من الحكمين بعد انضمامه واقترانه باحتمال الحكم المضاد له عملا لا يكون بذي أثر في نفس المكلف ولا يترتب عليه التحريك والداعوية، لان داعوية التكليف ومحركيته بلحاظ ما يترتب عليه من أثر حسن من تحصيل ثواب أو فرار عن عقاب أو حصول مصلحة أو دفع مفسدة، وإذا فرض تساوي الاحتمالين في الفعل لم يكن أحدهما محركا للمكلف لا محالة.
ومن هنا أمكننا ان نقول: بامتناع جعل مثل هذا الحكم واقعا، بناء على أن الحكم يتقوم بامكان الداعوية، إذ لا يمكن كل من الوجوب والحرمة أن يكون داعيا إلى متعلقه مع تساوي احتمالهما، فلا حكم واقعي أصلا، بل نلتزم بعدم الحكم واقعا، بناء على ما قربناه في حقيقة الحكم من أنه جعل ما يقتضى الداعوية، إذ لا اقتضاء في كل منهما للداعوية، فان عدم الداعوية راجع إلى قصور المقتضي لا لوجود المانع، إذ اقتضاء الحكم للداعوية باعتبار العلم أو احتمال ترتب الأثر الحسن عليه فإذا كان هذا الاحتمال مقرونا بعكسه كان المقتضي قاصرا، نظير العلم بثبوت مصلحة ومفسدة متساويتين في الفعل، فإنه لا تكون المصلحة في هذا الحال ذات اقتضاء للداعوية والتحريك. فانتبه.
أو فقل: ان التكليف ههنا لغو بعد عدم تأثيره الفعلي في المتعلق، ولو قلنا بان التكليف ما فيه اقتضاء الداعوية، فان جعل ما يقتضى الداعوية مع عدم انتهاءه إلى التأثير فعلا في متعلقه، فيكون محالا، والا لصح تعلق التكليف على هذا المنهج بغير المقدور، وهو مما لا يمكن الالتزام به.
ومن هنا يظهر انه لا مجال لاجراء البراءة العقلية في خصوص كل من الحكمين، إذ لا موضوع لها بعد خروج المورد عن مقسم التعذير والتنجيز.
مضافا: إلى ما أفاده صاحب الكفاية من أن البيان ههنا تام، وهو العلم الاجمالي، وانما القصور من ناحية عدم القدرة فهو نظير ما لو علم بالتكليف بأمر غير مقدور، فلا يقال إنه يقبح العقاب لعدم البيان، بل لعدم التمكن من الامتثال، ولا يخفى ان العلم الاجمالي مانع من جريان البراءة العقلية في كل من الطرفين ولو لوحظ كل منهما بنفسه وعلى حدة. فانتبه.»[1]
واساس ما افاده (قدس سره): ان المانع عن جريان البرائة، عدم امكان الاطاعة للحكم الواقعي في المقام، وهذا يستلزم القصور في ناحية المقتضي في الحكم قبل الابتلاء بالمانع. ومعه يرجع القصور الي الواضع، ومعه لا يمكن تصوير الرفع فيه بالنسبة الي البرائة الشرعية.
كما ان كل واحد من الاحتمالين في المقام بما انه لا اقتضاء للداعوية في كل واحد منهما لابتلائه بالمناقض، فلا يترتب عليه اثر من تحصيل الثواب او دفع العقاب في نفس المكلف.
ويترتب عليه عدم امكان حصول الغاية اي العلم بالحكم ـ كالعلم بالحرام عنه الشك في حلية شيء وحرمته ـ لعدم حصول العلم الموضوع للأثر، لما مر من عدم حصول غير الالزام وهو بنفسه لا يقتضي الدعوية بما مر.
كما انه لا يمكن تصوير ترتب العقاب علي البيان المعلوم في المقام لعدم كونه موضوعاً للأثر اعني الاطاعة والموافقة، فهو بعد فرض القصور في داعويته لما مر كان نظير التكليف بغير المقدور، فكما انه لا يعقل ترتب العقاب علي التكليف غير المقدور فكذلك في المقام.
وهذا هو الوجه الاساسي في وجه عدم جريان قاعدة القبح، لأن البيان بمعني حصول العلم ولو اجمالاً، وإن كان متحققاً في المقام الا ان العلم المذكور لا يترتب عليه اثر، وإن البيان المعلوم خارج عن مقسم المعذرية والمنجزية، وحينئذٍ فإنما يقبح العقاب لعدم التمكن من الامتثال لا لعدم البيان كما هو لسان القاعدة.
وفي الحقيقة، ان ما حققه السيد الاستاذ (قدس سره) في نفي جريان البرائة عقلاً ونقلاً، وما افاده صاحب الكفاية في وجه عدم جريان البرائة العقلية راجعتان الي اساس واحد، كما هو الاساس فيما مر من العلمين المحقق النائيني والمحقق الاصفهاني (قدس سرهما)، وكان الاعلام توجه كل منهم الي جهة خاصة مهمة عنده.
الوجه الثاني: لزوم الأخذ بأحدهما تعييناً.
فإن اساس القول بلزوم الأخذ بأحدهما، هو ان بعد الالتزام بوجوب موافقة الاحكام التزاماً، فإنما يجب الالتزام في المقام بكل من الوجوب والحرمة، لفرض حصول العلم بثبوت احدهما في الواقع، وحيث انه يستلزم الالتزام بالضدين، فهو غير متمكن عقلاً ويكون محالاً، لأن الاعتقاد والالتزام بثبوت الضدين محال كثبوتهما، ومعه تمتنع الموافقة القطعية، ومع عدم تمكن المكلف من الموافقة القطعية، فإنما يحكم العقل بلزوم الموافقة الاحتمالية، لأن فرض الموافقة القطعية يتنزل بالاحتمالية في مقام الاطاعة، وفي المقام بعد فرض عدم سقوط العلم الاجمالي وعدم امكان تصوير الانحلال والتجزية، لابد من الالتزام بأحد الحكمين.
وببيان آخر.
ان المكلف مضطر الي ترك احد طرفي العلم الاجمالي، اما الوجوب وإما الحرمة، ومع حصول الاضطرار الي احد طرفي العلم الاجمالي، لابد من الالتزام بالتوسط في التنجيز، ونتيجته لزوم الموافقة الاحتمالية.
هذا كله في فرض الالتزام بوجوب الموافقة الالتزامية.
وأما بناء علي عدم وجوبها – كما هو مختار الشيخ وصاحب الكفاية – فإن العلم الاجمالي بأحد الحكمين من الوجوب والحرمة يوجب تنجز الحكمين للمكلف، وحيث انه
لا يتمكن المكلف من الأخذ بهما معاً، وعدم امكان الموافقة القطعية في مثله لدوران الأمر بين الضدين، الفعل والترك، فتصل النوبة الي الموافقة الاحتمالية، ومقتضاها الأخذ بخصوص واحد من الوجوب او الحرمة، وتجري نفس البيان استناداً الي التوسط في التنجيز علي مامر بيانه.
نعم ان التوسط في التنجيز فهو غير تام عند صاحب الكفاية (قدس سره)، فإنه (قدس سره) في صورة حصول الاضطرار بأحد الاطراف انما يري عدم منجزية العلم الاجمالي بالمرة. وأما الكلام في وجوب الأخذ بأحدهما فسيأتي فيه مزيد ايضاح عند القول بالتنجيز، وهذا وأما بالنسبة الي الأخذ بخصوص احدهما، اي الأخذ بأحدهما المعين.
فإنه لا قائل بتقدم جانب الوجوب، بل ما وقع البحث فيه في كلماتهم تقديم جانب الحرمة عند دوران الأمر بينها وبين الوجوب.
[1]. الشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم، منتقى الأصول تقرير البحث السيد محمد الروحاني، ج5، ص24-27.