بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه دوم
وحاصل ما افاده (قدس سره):
ان البحث في اصالة التخيير و الاساس فيها دوران الأمر بين المحذورين لا يفرق بين ان يكون منشأه فقدان النص او اجماله او تعارض النصين او الشبهة في الموضوع، لأن المناط لها في جميع هذه الموارد الأربعة واحد، فلا حاجة لتنويع البحث فيها كما افاده الشيخ (قدس سره)، وفي هذا المقام اقوال:
الاول: الحكم بالبرائة شرعاً وعقلاً – في دوران الأمر بين المحذورين – كالشبهات البدوية بلا فرق، لعموم ادلة البرائة الشرعية بالنسبة الي المقام، وحكم العقل بقبح المؤاخذة علي كل من الفعل والترك، فإن كل واحد من الوجوب والحرمة مجهول، ولا يثبت بالنسبة اليه بيان فتقبح المؤاخذة عليه، كما انه رفع التكليف عن خصوص كل منهما لعدم العلم به، وأنه مما حجب الله علمه عن العباد.
الثاني:
وجوب الأخذ بأحدهما تعييناً. والظاهران مراده وجوب الأخذ بجانب الحرمة، وتقديم احتمال التحريم، وأما الأخذ بجانب الوجوب فلا قائل له بين الاصحاب.
اما تقديم احتمال التحريم تعييناً او من باب التخيير، فقال المحقق الاشتياني في تقريره: اي تقديم احتمال التحريم والبناءعليه في مرحلة الظاهر، من باب قاعدة الاحتياط عند دوران الأمر بين التعيين و التخيير، وحيث ان المورد من موارد الدوران المذكور، وأن التحريم اما متعين او محتمل فيجب الأخذ به.
قد استدل عليه ايضاً:
بحكم العقل والعقلاء، بأن دفع المفسدة اولي من جلب المنفعة. فيلزم ترك الفعل المشكوك ولو استلزم فوت المصلحة المحتملة.
والاستقراء، بناءً علي ان الغالب تغليب الشارع جانب الحرمة علي الوجوب، وأن مذاقة تقديم الحرمة في موارد اشتباه الواجب بالحرام.
والأخبار الآمرة بالتوقف عند الشبهة.
بناء علي ان المراد منه عدم الاقدام بالفعل عند الشبهة وترك الحركة نحوها، ونتيجته تقديم احتمال الحرمة.
الثالث:
وجوب الأخذ بأحدهما اي الفعل او الترك تخييراً شرعياً ظاهرياً، ووجهه قياس المقام بباب الخبرين المتعارضين الجامعين لشرائط الحجية. وأن مقتضي الأخبار فيه الأخذ بأحدهما تخييراً كقوله عليه السلام: «بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك.»[1]
الرابع:
التخيير بين الفعل و الترك عقلاً في مقام العمل. والتوقف عن الحكم بشئ لا ظاهراً ولا واقعاً، ومعناه عدم الحكم بشئٍ لا في مقام الظاهر ولا في مقام الواقع، لا لغاء الشارع كلا الاحتمالين، فلا حرج في الفعل ولا في الترك بحكم العقل حذراً عن الترجيح بلا مرجح.
وبعبارة اخري: ان الموافقة القطعية متعذرة في المقام كالموافقة القطعية، والموافقة الاحتمالية حاصلة كالمخالفة الاحتمالية، و حيث لا ترجيح لأحد الاحتمالين فيحكم العقل في مثل المقام بالتخيير، وأنه لا عقاب علي الفعل ولا علي الترك.
والتخيير بهذا المعني تخيير عقلي تكويني، وليس هنا تشريعاً بالتخيير، ولا يثبت في مورده حكم من الشرع لا في مقام الظاهر ولا في مقام الواقع. وإن كان الحكم في الواقع ثابتاً الا انه لا دليل اثباتي عليه بالنسبة الي المكلف.
الخامس:
التخيير العقلي بين الفعل والترك والحكم بالاباحة شرعاً.
وهذا ما اختاره صاحب الكفاية (قدس سره):
واستدل عليه (قدس سره):
اما بالنسبة الي التخيير بين الفعل والترك عقلاً، فلأنه لا يري العقل ترجيحاً بين الفعل والترك، والأخذ بكل واحد منهما تعييناً يستلزم الترجيح بلا مرجح، فيتعين التخيير ومعناها لأرجحية بين الفعل والترك لما مر، من ان الموافقة القطعية في مثل المقام متعذرة كالمخالفة القطعية، والموافقة الاحتمالية حاصلة علي اي حال من الفعل والترك كالمخالفة الاحتمالية، فلا محالة يحكم العقل بالتخيير.
وأما بالنسبة الي الحكم بالاباحة شرعاً، فاستدل عليه:
ان عموم قوله (عليه السلام): «كل شيء حلال حتي تعرف انه حرام»، لا مانع عن شموله بالنسبة الي المقام عقلاً ولا نقلاً.
وليعلم ان النكتة في كلام صاحب الكفاية بقوله: «وشمول مثل كل شئ لك حلال حتي تعرف انه حرام» ان الدليل علي الحكم بالاباحة شرعا في المقام ليس اخبار البرائة، مثل حديث الرفع او حديث الحجب وأمثاله، لأن مدلول هذه الأخبار نفي التكليف الالزامي، بل ان مدلولها ان الالزام المجهول مرفوع فعلاً، فلا تدل علي الاباحة بالمعني الاخص. وأما حديث الحل بقوله: كل شئ لك حلال حتي تعرف...
فإن مدلوله الاباحة التي هي حكم شرعي ظاهري. وادلة البرائة لا تدل علي اكثر مما هو اعم منه، فإن مدلولها مطابقة نفي التكليف الالزامي ومدلولها التزاماً الترخيص، وهو اعم من الاباحة.
ولذلك التزم صاحب الكفاية(قدس سره) بأن الاقوال في المسألة خمسة، وجعل القول بالتخيير عقلاً والالتزام بالاباحة شرعاً عند دوران الأمر بين الوجوب والحرمة قولاً خامساً في المسألة.
ولولا ذلك اي الالتزام بخصوص القول بالاباحة شرعاً في المقام لما كان وجه لالتزام بالقول الخامس، وإنما يكفي عند القول الاول وهو الالتزام بالبرائة عقلاً ونقلاً.
ولذا نري ان الشيخ (قدس سره) جعل الاقوال في المسألة اربعة، بحذف القول الخامس في كلام صاحب الكفاية.
ثم افاد صاحب الكفاية (قدس سره) بأن مثل قوله (عليه السلام): كل شيء لك حلال...
يشمل بعمومه المقام ولا مانع عنه عقلاً ولا نقلاً.
والمانع العقلي عن جريان قاعدة الحل يكون مثل العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة، حيث انه يمنع عن جريانها في اطرافه، وأن القاعدة يستلزم جريانها الترخيص في المعصية.
والمانع الشرعي يكون مثل اصالة الاحتياط بناءً علي تقديم اخبار الاحتياط في الشبهات البدوية علي اخبار الحل والبرائة.
فالتزم (قدس سره) بأن جريان الاباحة في المقام لا يبتلي بمثل هذه المحاذير حسب ما اخذناه من المبني.
ثم افاد صاحب الكفاية (قدس سره)
انه ربما يتوهم وجود المانع العقلي عن جريان اصالة الاباحة في المقام، وهو لزوم الالتزام بالأحكام ووجوب الموافقة الالتزامية بها، فإن القول بالاباحة ينافي هذا الالتزام ولو اجمالاً.
توضيح ذلك: ان في المقام وإن لا يمكن الموافقة الالتزامية بالحكم تفصيلاً، لما افاده من ان الالتزام بكل من الوجوب والحرمة تفصيلاً تشريع محرم، الا انه يمكن الالتزام بهما اجمالاً، بالالتزام بأن الحكم في المقام اما الوجوب او الحرمة، وحينئذٍ كيف يمكن القول بالاباحة وكيف تجميع الالتزام بها مع الالتزام بهما اجمالاً.؟
[1]. وسائل الشيعة (آل البيت)، ج27، الباب 9 من ابواب صفات القاضي، ص108، الحديث33339/6.