بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه صد و سيزده
مع ان في غالب الموارد لا يعجز الشخص بدنا عن القيام بحوائجه، فانه كان لعدم مناسبة حاله لمباشرتها.
ثم ورد الشيخ (قدس سره) في تقريب ما استدل به علي عدم اعتبار الشرف والضعه في المقام وقال:
«خلافا لجماعة من متأخّري المتأخّرين فحكموا بعدم اعتبار ذلك.
تبعا لظاهر الدروس، حيث قال: و المعتبر في الراحلة ما يناسبه و لو محملا إن عجز عن القتب، و لا يكفي علوّ منصبه في اعتبار المحمل أو الكنيسة، فإنّ النبيّ و الأئمّة- صلوات اللّه عليهم و عليهم أجمعين- حجّوا على الزوامل. انتهى.
و الظاهر: أنّ مراد الشهيد رحمه اللّه هو ما إذا اقتضى المحمل بنفس علوّ المنصب، بأن استنكف الركوب على الأقتاب من دون أن يكون ذلك نقصا في رتبته عند الناس، كما هو الغالب، من أنّ ارتكاب خلاف الزيّ في أسفار الطاعة ليس نقصا للشخص.
و مستند الجماعة: ما تقدّم من قوله عليه السّلام في رواية أبي بصير، فيمن لا يقدر على المشي:«إنّه يخدم القوم و يخرج معهم».
و صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) قال:«يكون له ما يحجّ به» قلت: فإن عرض عليه الحجّ فاستحيى، قال:«هو ممّن يستطيع لم يستحيي؟ و لو على حمار أجدع، فان كان يستطيع أن يمشي بعضا و يركب بعضا فليفعل».
و نحوها قوله عليه السّلام في صحيحة معاوية بن عمّار، المتقدّمة في مؤنة الحجّ«فإن دعاه قوم أن يحجّوه فاستحيى فلم يفعل فإنّه لا يسعه إلّا الخروج و لو على حمار أجدع، أبتر».
و المرويّ عن المحاسن، بسنده الصحيح، عن أبي بصير، عن الصادق عليه السّلام«من عرض عليه الحجّ فاستحيى و لو على حمار أجدع مقطوع الذنب فهو ممّن يستطيع الحجّ».
و الجواب أمّا عن روايتي أبي بصير و ابن مسلم: فمخالفتهما لما تقدّم من الإجماع على اعتبار الراحلة. حيث دلّتا على وجوب الحجّ بمجرّد إطاقة المشي.
و أمّا صحيحة ابن عمّار [و رواية أبي بصير عن المحاسن]، فيمكن حمل الاستحياء فيهما على الاستنكاف لا على الاستحياء من جهة كون ذلك مذلّة عند الناس، و يؤيّده أنّ مورد الصحيحة فيمن دعاه قوم أن يحجّوه، و معناه: أن ينفقوا عليه في الطريق، و من هذا شأنه لا ينافي حاله الركوب على حمار أجدع أبتر، سيّما مع ما عرفت من أنّ الغالب مسامحة الناس في أسفار الطاعة المبتنية على التذلّل، و كسر النفس ما لا يتسامحون في غيرها.
مع أنّ قوله:«لا يسعه إلّا الخروج» يحتمل قريبا أن يكون إشارة إلى استقرار الحجّ عليه، و أنّه يستقر عليه الحجّ بعد الفرض و الامتناع، فيجب حينئذ من غير اعتبار زاد و راحلة. فقوله:«و لو على حمار» إشارة إلى عدم اعتبار الاستطاعة الشرعيّة بعد الاستقرار.»[1]
وما افاده (قدس سره) في المورد في مقام الاستدلال على مدعاه وكذا في مقام التأييد متين جداً ومنطبق على ما ذكره الاعلام في ساير ابواب الفقه مما يرتبط بالمقام كباب الخمس والزكاة والدين وامثاله.
وكذا ان ما افاده في مقام نقد كلام كاشف اللثام وغيره ممن التزم بعدم اعتبار الضعة والشرف في الاستطاعة متين جداً ويشتمل على نكات بديعة وان لا يخلو عن نظر في بعضها، وقد مر تفصيل الكلام فيه.
ويمكن ان يقال:
ان ما استدل به صاحب العروة في مقام الاستدلال على اعتبار الضعة والشرف في الاستطاعة بعد اعترافها باطلاق الآية والاخبار الواردة في المقام بحكومة قاعدة العسر والحرج عليه تبعاً لصاحب الجواهر (قدس سره) وغيره. واستدل به الشيخ (قدس سره) فيما مر منه، وان كان تاماً حسب ما يراه من اطلاق الادلة الا انه يمكن ادعاء عدم تمامية انعقاد الاطلاق في الادلة بلا فرق فيها بين الآية الشريفة والاخبار.
وقد مر الكلام فيه ببيان ان الآية في مقام بيان ان الشرط لوجوب الحج الاستطاعة العرفية، في قبال الاستطاعة العقلية كما هو الشان في الالفاظ والمفاهيم الواردة في الآيات والروايات.
ومعنى الاستطاعة العرفية القدرة العقلية مع ملاحظة ادلة العسر والحرج فيها، فيكون الحاصل: ان الشرط هو ما يتمكن الانسان للاتيان بالحج من غير مشقة لا يمكن تحمله له عرفاً، فالسهولة بمعنى عدم لزوم المشقة ملحوظة في الاستطاعة العرفية.
والاخبار الواردة في المقام لا تكون الا في مقام تبيين هذه الاستطاعة العرفية دون تقييدها بامور مثل الزاد والراحلة على وجه مطلق وذكر هذه الامور في مقام تبيينها انما كان لاجل ان الغالب عدم تمكن الشخص من الاتيان بالحج عند فقدها، والا فلا شبهة في وجوب الحج على اهل مكة ومن قرب اليها من دون احتياج الى راحلة او زاد خاص له كما لا موضوع لتخلية السرب بالنسبة اليه، فيلزم رفع اليد عن التقييد المذكور بالنسبة اليهم وكذا نظيره مما مر.
وحينئذٍ فان معنى الاستطاعة العرفية معنى نسبي، وتختلف بالنسبة الى الافراد المختلفة قوة وضعفاً وضعة وشرفاً. كما يختلف بعداً وقرباً وحراً وبرداً. فانها مفهوم نسبي. فربما تكون في تحمل امر مشقة على احد دون اخر مما يتحمل عادة بالنسبة اليه، مع انه قابل للتحمل عرفاً بالنسبة الى الآخر. والشريف الذي كان تحمل الاسباب العادية مستلزماً للمشقة غير القابلة للتحمل عرفاً بالنسبة اليه من هذا القبيل ولا تتحقق في مورده الاستطاعة العرفية.
وما افاده الشيخ (قدس سره) من ان تحمل الاسباب العادية له عذر يمنع عن التمكن بالاتيان بالحج، او حاجة تجحف به انما يكون تقريباً لهذه الجهة. وكذا ما ايد به من رعاية اليسار في امر الحج وعدم جواز اذلال المؤمن، وفتويهم بعدم لزوم بيع الخادم وامثاله.
واما ما استدل به الفاضل الهندي في كشف اللثام وغيره من وجوب الحج عند عرض الحج اليه ولو على حمار اجدع... من الاخبار ليس في مقام بيان الضابطة لوجوب الحج بالنسبة الى الجميع، بل الملحوظ في جميع الاخبار الواردة في الباب بلا فرق بين الطائفة الاولى السابقة والطائفة الثانية الاستطاعة العرفية، ووجوب الحج في مورد الرواية انما كان لاجل عدم منافات ما عرض عليه لها. ولذا افاد الشيخ (قدس سره) بان في نفس هذه الاخبار القرينة على هذا المعنى حيث ان عرض الحج انما يكون بمعنى الانفاق عليه، وذلك ربما لا يناسب شأن غيره، اي ان قبوله خلاف لزّي كثير من الناس ونحن نعبر عنه بعدم تحقق الاستطاعة العرفية بالنسبة اليه.
[1]. الشيخ الانصاري، كتاب الحج، ص29-31.