بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه شصت و نه
اما الوجه الثاني: قال الشيخ (قدس سره):
« الوجه الثاني: أن الأصل في الأفعال الغير الضرورية الحظر، كما نسب إلى طائفة من الإمامية، فيعمل به حتى يثبت من الشرع الإباحة، ولم يرد الإباحة في ما لا نص فيه.
وما ورد - على تقدير تسليم دلالته - معارض بما ورد من الأمر بالتوقف والاحتياط، فالمرجع إلى الأصل.
ولو تنزلنا عن ذلك فالوقف، كما عليه الشيخان (قدس سرهما).
واحتج عليه في العدة: بأن الإقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالإقدام على ما يعلم فيه المفسدة.
وقد جزم بهذه القضية السيد أبو المكارم في الغنية، وإن قال بالإباحة كالسيد المرتضى (رحمه الله)، تعويلا على قاعدة " اللطف "، وأنه لو كان في الفعل مفسدة لوجب على الحكيم بيانه.
لكن ردها في العدة: بأنه قد يكون المفسدة في الإعلام ويكون المصلحة في كون الفعل على الوقف.
والجواب: بعد تسليم استقلال العقل بدفع الضرر، أنه: إن أريد ما يتعلق بأمر الآخرة من العقاب، فيجب على الحكيم تعالى بيانه، فهو مع عدم البيان مأمون.
وإن أريد غيره مما لا يدخل في عنوان المؤاخذة من اللوازم المترتبة مع الجهل أيضا، فوجوب دفعها غير لازم عقلا، إذ العقل لا يحكم بوجوب الاحتراز عن الضرر الدنيوي المقطوع إذا كان لبعض الدواعي النفسانية، وقد جوز الشارع بل أمر به في بعض الموارد.
وعلى تقدير الاستقلال فليس مما يترتب عليه العقاب، لكونه من باب الشبهة الموضوعية - لأن المحرم هو مفهوم الإضرار، وصدقه في هذا المقام مشكوك، كصدق المسكر المعلوم التحريم على هذا المائع الخاص -، والشبهة الموضوعية لا يجب الاجتناب عنها باتفاق الأخباريين أيضا،...»[1]
واما صاحب الكفاية فلم يتذكر لما افاده الشيخ (قدس سره) هنا بعنوان الوجه الثاني، بل افاده في تتمة كلامه:
«وربما استدل بما قيل:
من استقلال العقل بالحظر في الأفعال الغير الضرورية قبل الشرع، ولا أقل من الوقف وعدم استقلاله، لا به ولا بالإباحة، ولم يثبت شرعا إباحة ما اشتبه حرمته، فإن ما دل على الإباحة معارض بما دل على وجوب التوقف أو الاحتياط.
وفيه:
أولا: إنه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف والاشكال، وإلا لصح الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الأفعال على الإباحة.
وثانيا: إنه ثبت الإباحة شرعا، لما عرفت من عدم صلاحية ما دل على التوقف أو الاحتياط، للمعارضة لما دل عليها.
وثالثا: أنه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة، للقول بالاحتياط في هذه المسألة، لاحتمال أن يقال معه بالبراءة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.
وما قيل: - من أن الاقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالاقدام على ما يعلم فيه المفسدة - ممنوع، ولو قيل بوجوب دفع الضرر المحتمل، فإن المفسدة المحتملة في المشتبه ليس بضرر غالبا، ضرورة أن المصالح والمفاسد التي هي مناطات الاحكام ليست براجعة إلى المنافع والمضار، بل ربما يكون المصلحة فيما فيه الضرر، والمفسدة فيما فيه المنفعة، واحتمال أن يكون في المشتبه ضرر ضعيف غالبا لا يعتنى به قطعا.
مع أن الضرر ليس دائما مما يجب التحرز عنه عقلا، بل يجب ارتكابه أحيانا فيما كان المترتب عليه أهم في نظره مما في الاحتراز عن ضرره، مع القطع به فضلا عن احتماله.»[2]
ويمكن ان يقال:
ان بالنسبة الي الوجه الاول، فإن حصول العلم الاجمالي بوجود احكام في الشريعة عند الالتفات بها، وأنه يوجب بنفسه تنجيز الاحكام المعلومة بالاجمال، الا انه تصوير لدليل العقل، مع قطع النظر عن كلمات الاخباريين في المقام، فإنهم يلتفتون بأن هذا العلم الاجمالي يسبقه او يقارنه العلم بثبوت احكام في دائرة الطرق والامارات، وعليه فإنه يلزم ان يحاسب اثر العلم الاجمالي بالنظر الي ثبوتها في دائرة الطرق والامارات اجمالاً او تفصيلاً.
كما انه لا تفاوت بين حصول العلم بالطرق سابقاً او لاحقاً او مقارناً لاشتراك الجميع في انحلال العلم الاجمالي ولو حكماً، وعليه فالصحيح في تقريب دليل العقل هنا، ثبوت العلم الاجمالي بوجود احكام في الشريعة او نواهي ومحرمات فيها.
وإن المكلف وإن يحصل له مع العلم المذكور العلم بجملة من هذه الاحكام في ضمن الطرق. الا ان ما يلزم الدقة فيه ان العلم الاجمالي انما يحصل بوجود احكام واقعية في الشريعة، بمعني ان الشريعة بنيت علي احكام واقعية مبتنية علي المصالح والمفاسد.
ونحن وإن يحصل لنا العلم بالطرق والامارات الا ان مؤداها ليس ما يعلم اجمالاً من الاحكام، بل بما ان الطرق ظنية، ليس فيها ارائة الواقع بكامله. بل يحتمل الخلاف في الارائة، فإنه لا يتم انحلال العلم الاجمالي المذكور بالعلم بثبوت الطرق اجمالاً او تفصيلاً. لأنه لا يحرز ثبوت الواقع بواقعه في كل واحد من اطراف العلم الاجمالي، بل بالنسبة الي كل طرف ليس الا احتمال الواقع ومؤدي الطريق دون الواقع.
وأساس الجواب عنه. هو ما يظهر من الشيخ (قدس سره) من ان الكلام في المقام وموضوع البحث ليس في الاحكام الواقعية الثابتة في الشريعة، بل البحث يكون في الاحكام التي كان الشخص مكلفاً بها في الشريعة، فإن مدار اشتغال الذمة وامكان تفريغها، وإن الوجه الاحتياط او البرائة. كلها انما يكون الاحكام او النواهي التي كان المكلف يشتغل ذمته بها، او ثبت عقلاً اشتغاله بها، ففي هذه الدائرة ان المؤثر من العلم والمنجز للتكليف ليس صرف العلم اجمالاً او تفصيلاً بثبوت احكام في الشريعة، بل بثبوت احكام علي المكلف. والمكلف لا تكليف له الا بما وصل اليه من نفس الواقع، او الواقع المحتمل. وبعبارة اخري: الواقع حسب ما ادي اليه الطريق – كما افاده الشيخ (قدس سره) – او ما ثبت عليه من الوظيفة العملية، فإن هذه الموارد، احكام احرز ثبوتها علي المكلف توجب العلم بها اشتغال ذمته، ويلزمه التفريغ عنها. فإن العلم الإجمالي في هذه الدائرة يؤثر ويوجب التنجز في الاحكام المذكورة. وهذا العلم اذا لم ينحل فلا محالة يلزم علي المكلف الاجتناب عن كل محتمل الحرمة والتحفظ علي كل محتمل الحكم بموارده الثلاثة، ويعبر عنه بالاحتياط.
وإذا فرض ثبوت الطرق والامارات بمقدار يتكفل ما علي المكلف من الاحكام والوظائف ينحل العلم الاجمالي المذكور لا محالة حقيقة لا حكماً، لأن المعلوم في دائرة الطرق هو نفس المعلوم في دائرة العلم بما ثبت علي المكلف، ويكون منجزاً عليه ويلزمه الاشتغال.
ومع التسلم وأن المعلوم بالطرق انما هو قسم من الوظايف المذكورة لا جميعها، فإنه يجري في المقام الضوابط الجارية في الانحلال الحكمي علي ما حقق في محله.
وبالجملة ان ما حققه الشيخ في المقام في الرسائل اقرب الي الوجه القابل للتصوير في تقريب الدليل العقلي.
وما افاده صاحب الكفاية وان تم في حد نفسه الا انه ليس ما ادعاه الاخباريون من تقريب الوجه العقلي.
اما الوجه الثاني: لتقريب الدليل
فيمكن ان يقال:
ان البحث في ان الاصل في الافعال الحظر او الاباحة انما هو الاصل الجاري فيها قبل الشرع، والي أوان الشرع. فهنا بحث بأنه مع عدم ثبوت حكم في الشرع فهل يكون الاصل الاولي فيه الحظر او الاباحة. او التوقف وإن كان حقيقة التوقف في مقام العمل الحظر.
والبحث في مقتضي هذا الاصل موكول الي محله.
وفرض ان مقتضاه الحظر لا يوجب الالتزام بالاحتياط في مسئلتنا. لأن بعد ورود الشرع اذا فرض حصول العلم بجميع ما يكون المتدين به مكلفاً به من الواقع او الطريق او الوظيفه العملية، فإنه لا وجه للاستناد الي ان مقتضي الاصل في الافعال الحظر، بل يلزم الفحص وتحصيل الحكم واقعياً او ظاهرياً حسب تمكن المحصل، او تحصيل العلم بالوظيفة العملية واحرازها عند عدم العلم.
فإن قيل: ان قبل حصول هذا العلم في دائرة الطرق والامارات كان مقتضي الاصل الاولي في الافعال الحظر. ومقتضاه الالتزام بالاحتياط حتي يحصل لنا العلم بهذه الاحكام.
فنقول:
ان هذا تام و نحن نلتزم به ايضاً، فإن في الشبهات الحكمية قبل الفحص نحن نقول بالاحتياط دون البرائة.
ولكن الكلام في الشبهات بعد الفحص. ولا موجب للالتزام بالاحتياط فيما لمن التزم بالحظر هناك.
هذا كله مع امكان المناقشة جداً في كون الاصل الاولي في الاشياء الحظر.
بل ثبت في محله ان الاصل في الاشياء الاباحة بدلالة العقل، وأنه لا تصوير للتكليف بلا وصول بيان. كما افاد صاحب الكفاية (قدس سره) في المقام.
[1]. الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج2، ص90-91.
[2]. الآخوند خراسانی، كفاية الاصول، ص 347-348.