بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه شصت پنج
الاستدلال بدليل العقل لوجوب الاحتياط في الشبهة
قال في الكفاية:
«وأما العقل: وأما العقل: فلاستقلاله بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل حرمته، حيث علم إجمالا بوجود واجبات ومحرمات كثيرة فيما اشتبه وجوبه أو حرمته، مما لم يكن هناك حجة على حكمه، تفريغا للذمة بعد اشتغالها، ولا خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي إلا من بعض الأصحاب.»[1]
وأجاب عن الوجه المذكور بقوله:
«والجواب: إن العقل وإن استقل بذلك، إلا أنه إذا لم ينحل العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي وشك بدوي، وقد انحل هاهنا، فإنه كما علم بوجود تكاليف إجمالا، كذلك علم إجمالا بثبوت طرق وأصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار تلك التكاليف المعلومة أو أزيد، وحينئذ لا علم بتكاليف أخر غير التكاليف الفعلية في الموارد المثبتة من الطرق والأصول العملية.
إن قلت: نعم، لكنه إذا لم يكن العلم بها مسبوقا بالعلم بالتكاليف.
قلت: إنما يضر السبق إذا كان المعلوم اللاحق حادثا، وأما إذا لم يكن كذلك بل مما ينطبق عليه ما علم أولا، فلا محالة قد انحل العلم الاجمالي إلى التفصيلي والشك البدوي.
إن قلت: إنما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له بمقدار المعلوم بالاجمال ذلك إذا كان قضية قيام الطريق على تكليف موجبا لثبوته فعلا.
وأما بناء على أن قضية حجيته واعتباره شرعا ليس إلا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا، وهو تنجز ما أصابه والعذر عما أخطأ عنه، فلا انحلال لما علم بالاجمال أولا، كما لا يخفى.
قلت: قضية الاعتبار شرعا - على اختلاف ألسنة أدلته - وإن كان ذلك على ما قوينا في البحث، إلا أن نهوض الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم بالاجمال في بعض الأطراف يكون عقلا بحكم الانحلال، وصرف تنجزه إلى ما إذا كان في ذاك الطرف والعذر عما إذا كان في سائر الأطراف، مثلا إذا علم إجمالا بحرمة إناء زيد بين الإناءين وقامت البينة على أن هذا إناؤه، فلا ينبغي الشك في أنه كما إذا علم أنه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلا عن خصوصه دون الآخر، ولولا ذلك لما كان يجدي القول بأن قضية اعتبار الامارات هو كون المؤديات أحكاما شرعية فعلية، ضرورة أنها تكون كذلك بسبب حادث، وهو كونها مؤديات الامارات الشرعية. هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار المعلوم بالاجمال، وإلا فالانحلال إلى العلم بما في الموارد وانحصار أطرافه بموارد تلك الطرق بلا إشكال.» [2]
وحاصل ما افاده في المقام:
ان الوجه الذي استدل به بعنوان الوجه العقلي للقول بالاحتياط في الشبهات هو العلم الاجمالي بوجود احكام كثيرة في الشبهات ـ بلا فرق بين مشتبة الحرمة ومشتبة الوجوب ـ وليس لنا دليل يعين الحكم بينهما. فهنا نعلم باشتغال الذمة بالتكاليف المذكورة، ويلزم فراغ الذمة عنها، ولولا الالتزام بلزوم الاحتياط في اطراف العلم الاجمالي المذكور ـ وهو مجموع المشبهات ـ لا يحصل لنا الفراغ بعد العلم باشتغال الذمة.
وأجاب عنه صاحب الكفاية:
بأن العلم الاجمالي المذكور وإن كان منجزاً للتكاليف المعلومة في الشبهات، الا ان تأثير العلم المذكور انما يتوقف علي بقائه بين الاطراف، وعدم انحلالي، وإذا فرض انحلاله فلا موجب لتنجز هذه التكاليف علي عهدة المكلف، وفي المقام ان لنا علم اجمالي آخر بثبوت طرق وامارات مثبتة للتكاليف المزبورة، ومقدار التكاليف المعلومة بهذا العلم الاجمالي لا ينقص عن التكاليف المعلومة بالعلم الاجمالي الاول، ولا يحصل لنا العلم بوجود تكاليف غير ما قام عليه الطرق والامارات ـ التكاليف الفعلية المتعلقة لها ـ بل ليس لنا بالنسبة اليها الا الشك وهو البدوي لعدم اقترانه بعلم الاجمالي. فلا محالة ينحل العلم الإجمالي الاول بالعلم الإجمالي الثاني، والشك البدوي في غير متعلقاته، ومعه لا موجب لتنجز التكاليف المحتملة في المشتبهات بعد الانحلال اذ ليس لنا فيها الا الشك، فلا وجه للزوم الاحتياط.
هذا ثم اورد (قدس سره) علي نفسه اشكالاً:
وهو ان العلم الاجمالي بقيام الطرق والامارات انما يمنع عن تنجيز العلم الاجمالي بوجود احكام كثيرة في المشتبهات، اذا قام قبل العلم بوجودها بين المشتبهات او حين حصوله. وأما اذا فرض قيام العلم المذكور وحصوله متأخراً عن العلم الاجمالي بوجود احكام بين المشتبهات، فإنه لا يتحقق الفراغ يقيناً بعد العلم باشتغال الذمة بوجود التكاليف المعلومة بين المشتبهات، اذ يحتمل بقاء تكاليف خارجاً عن متعلق العلم بالطرق المذكورة، فلا يحرز معه فراغ الذمة عما يشتغل به يقيناً.
وأجاب عنه (قدس سره):
بأن هذا انما يتم ـ اي يمنع العلم بقيام الطرق علي التكاليف عن تنجيز العلم الاجمالي الاول، اذا كان متقدماً عليه او مقارناً ـ اذا لم ينطبق المعلوم بالاجمال ثانياً علي المعلوم بالاجمال اولاً.
توضيح ذلك:
ان المكلف بمجرد التفاته الي الشريعة يحصل له العلم الاجمالي بوجود تكاليف في الشريعة، والعلم اجمالاً او تفصيلاً بقيام الطرق والامارات او الاصول انما يحصل له بعد ذلك لا محالة، اي بعد المراجعة الي الطرق والاصول المزبورة.
وهذا التأخير انما يضر اذا لم يكن المعلوم لاحقاً منطبقاً علي المعلوم بالاجمال اولاً، وأما اذا كانت الاحكام المعلومة تفصيلاً او اجمالاً لمراجعة الطرق والامارات المعتبرة منطبقة علي المعلومة بالاجمال سابقاً، و ليست مغايرة معها، ليرتفع تأثير العلم الاجمالي الاول لا محالة، والانحلال انما جاء من ناحية هذا التطبيق، ولا يبقي معه يقين باشتغال الذمة بالتكاليف المزبورة.
ثم اورد علي نفسه ثانياً:
بأن انحلال العلم الاجمالي بوجود تكاليف بين المشتبهات انما يتحقق بالعلم بقيام الطرق والامارات اذا كان مفادها الاحكام الواقعية الفعلية، وبعبارة اخري ارائة الواقع، وأما اذا كان مفادها الاحكام الظاهرية التي هي عبارة عن تنجيز الواقع عند اصابتها به، والتقدير عند مخالفتها له، فلا وجه لانحلال العلم الاجمالي المزبور، لأنه لا يستكشف لنا بقيام الامارات والطرق المذكورة الاحكام الشرعية الواقعية.
وأجاب عنه (قدس سره):
بأن مفاد الطرق والامارات وإن كان الحكم الظاهري الا انه لا يمنع عن انحلال العلم الاجمالي الاول، وذلك:
لأن مفادها وإن لم يكن الحكم الواقعي، الا انه حجة علي الواقع بمقتضي ادلة اعتبارها، وكما ان العلم بالحكم يوجب انحلال العلم الاجمالي بوجود الاحكام المزبورة، كذلك الحجة علي الحكم بحسب اختلاف المباني في اعتبار الطرق، وعليه فإنما تكون مؤديات هذه الطرق احكاما فعلية، وإن لم تكن احكاماً واقعية، بل تحتملها. ومثل (قدس سره) لتأثير قيام الحجة في انحلال العلم الاجمالي، بأنه لو علم اجمالاً بحرمة اناء زيد بين الانائين، وقامت البينة علي ان هذا إناؤه فلا ينبغي الشك في انه كما اذا علم انه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب الا عن خصوصه دون الاخر. هذا و ما افاده (قدس سره) تقرير لما حققه الشيخ في الرسائل بعنوان الوجه الاول.
قال في الرسائل:
«وأما العقل، فتقريره بوجهين:
أحدهما:
أنا نعلم إجمالا قبل مراجعة الأدلة الشرعية بمحرمات كثيرة يجب - بمقتضى قوله تعالى: (وما نهاكم عنه فانتهوا) ونحوه - الخروج عن عهدة تركها على وجه اليقين بالاجتناب أو اليقين بعدم العقاب، لأن الاشتغال اليقيني يستدعي اليقين بالبراءة باتفاق المجتهدين والأخباريين، وبعد مراجعة الأدلة والعمل بها لا يقطع بالخروج عن جميع تلك المحرمات الواقعية، فلا بد من اجتناب كل ما احتمل أن يكون منها إذا لم يكن هناك دليل شرعي يدل على حليته، إذ مع هذا الدليل يقطع بعدم العقاب على الفعل على تقدير حرمته واقعا.
[1]. الآخوند خراسانی، كفاية الاصول، ص 346.
[2]. الآخوند خراسانی، كفاية الاصول، ص 346-347.