بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه شصت و يك
وبهذا البيان تخرج الرواية عن الاجمال حسب ما حققه الشيخ، ولا يعارض مع ما ادعاه القائل بالبرائة.
وأما بالنسبة الي صحيحة عبدالله بن وضاح، فظاهر الرواية هو ان المراد من قوله: اري لك ان تنظر، كون الاحتياط وسيلة لبيان الحكم الواقعي لاجل التقية، لأنه لا يتمكن الامام بالتصريح فيه، وإنما بيّن الحكم بعنوان الاحتياط، كما افاده الشيخ (قدس سره)، وإن هذا الاحتمال هو الجاري في بيان مدلول الرواية دون الاحتمال الاول، والسؤال عن الشبهة في الموضوع لعدم تمامية استظهار هذا الاحتمال من التعابير الواردة في صدر الحديث.
وأما حديث الامالي قوله: اخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت.
او قوله (عليه السلام): خذ بالاحتياط في جميع امورك ما تجد اليه سبيلاً، فيما وجده الشيخ الحر العاملي بخط الشهيد (قدس سره).
وما ارسله الشهيد بقوله(عليه السلام): دع ما يربيك الي ما لا يربيك.
وما ارسله بقوله (عليه السلام): لك ان تنظر الحزم وتأخذ بالحائطة لدينك.
او قوله(عليه السلام): ليس بناكب عن الصراط من سلك سبيل الاحتياط.
فالوجه في جميعها الحمل علي الارشاد بعين ما مر في الطائفة الثانية، والامر بالوقوف طابق الفعل بالفعل، وليس في مدلولها بيان مغاير لتلك الاخبار. الطائفة الرابعة مما استدل بها القائلون بالاحتياط: اخبار التثليث.
قال الشيخ (قدس سره):
«الرابعة: اخبار التثليث المروية عن النبي (صلي الله عليه وآله) والوصي (عليهم السلام) وبعض الائمة (عليهم السلام).
وذكر (قدس سره) ابتداءً مقبولة عمر بن حنظلة السابقة، بقوله (عليه السلام) بعد الأمر بأخذ المشهور منهما وترك الشاذ النادر معللاً بقوله: فإن المجمع عليه لا ريب فيه.
وقوله: انما الامور ثلاثة: امر بيّن رشده فيتّبع، وأمر بيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يرد حكمه الي الله ورسوله.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حلال بيّن، وحرام بيّن، وشبهات بين ذلك.
فمن ترك الشبهات نجي من المحرمات، ومن اخذ بالشبهات وقع في المحرمات، وهلك من حيث لا يعلم.
قال الشيخ (قدس سره):
«وجه الدلالة: أن الإمام (عليه السلام) أوجب طرح الشاذ معللا: بأن المجمع عليه لا ريب فيه، والمراد أن الشاذ فيه ريب.
لا أن الشهرة تجعل الشاذ مما لا ريب في بطلانه، وإلا لم يكن معنى لتأخير الترجيح بالشهرة عن الترجيح بالأعدلية والأصدقية والأورعية، ولا لفرض الراوي الشهرة في كلا الخبرين، ولا لتثليث الأمور ثم الاستشهاد بتثليث النبي (صلى الله عليه وآله).
والحاصل:
أن الناظر في الرواية يقطع بأن الشاذ مما فيه الريب فيجب طرحه، وهو الأمر المشكل الذي أوجب الإمام رده إلى الله ورسوله.
فيعلم من ذلك كله: أن الاستشهاد بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) في التثليث لا يستقيم إلا مع وجوب الاحتياط والاجتناب عن الشبهات.
مضافا إلى دلالة قوله: " نجا من المحرمات "، بناء على أن تخليص النفس من المحرمات واجب، وقوله (صلى الله عليه وآله): " وقع في المحرمات، وهلك من حيث لا يعلم ".»
ثم افاده الشيخ (قدس سره):
«ودون هذا النبوي في الظهور: النبوي المروي عن أبي عبد الله (عليه السلام) - في كلام طويل -، وقد تقدم في أخبار التوقف.»[1]
ومراده من النبوي ما رواه الصدوق في الفقيه، باسناده عن علي بن مهزيار، عن الحسين بن سعيد، عن الحارث بن محمد بن النعمان الاحول، عن جميل بن صالح، عن الصادق (عليه السلام)، عن آبائه قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كلام طويل: الأمور ثلاثة: أمر تبين لك رشدة فاتبعه. وأمر تبين لك غيه فاجتنبه، وامر اختلف فيه فرده إلى الله عز وجل.[2]
وقد تقدم في الطائفة الثانية من الاخبار التي استدل بها للاحتياط، ان الرواية حسنة بحارث بن محمد بن النعمان، حيث لا تنصيص علي وثاقته الا انه قد روي عنه الحسن بن محبوب، وهو من اصحاب الاجماع. والوجه الذي به قرر الشيخ هذه الرواية دون المقبولة في الظهور.
ان في المقبولة تطبيق الرسول (صلى الله عليه وآله) الكبري المذكورة علي الخبرين المتعارضين، وقرر الشاذ مما فيه الريب في مقابل المجمع عليه، حيث لا ريب فيه، وإنما يجب طرح الشاذ من جهة ان فيه الريب ـ لا من جهة انه لا ريب في بطلانه ـ وأنه يقع في الأمر المشكل الذي اوجب (صلى الله عليه وآله) رده الي الله ورسوله(صلى الله عليه وآله).
وقرر (قدس سره) دون المقبولة في الظهور مرسلة الصدوق عن اميرالمؤمنين.
ومراده منها:
ما رواه الصدوق (قدس سره) في الفقيه قال: ان اميرالمؤمنين (عليه السلام) خطب الناس فقال في كلام ذكره:
«حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك، فمن ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك، والمعاصي حمى الله، فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها.»[3]
وقد افاد (قدس سره) في مقام الجواب عن الاستدلال بهذه الاخبار:
«والجواب عنه: ما ذكرنا سابقا، من أن الأمر بالاجتناب عن الشبهة إرشادي للتحرز عن المضرة المحتملة فيها.
فقد تكون المضرة عقابا وحينئذ فالاجتناب لازم، وقد تكون مضرة أخرى فلا عقاب على ارتكابها على تقدير الوقوع في الهلكة، كالمشتبه بالحرام حيث لا يحتمل فيه الوقوع في العقاب على تقدير الحرمة اتفاقا، لقبح العقاب على الحكم الواقعي المجهول باعتراف الأخباريين أيضا، كما تقدم.
وإذا تبين لك: أن المقصود من الأمر بطرح الشبهات ليس خصوص الإلزام، فيكفي حينئذ في مناسبة ذكر كلام النبي (صلى الله عليه وآله) المسوق للإرشاد: أنه إذا كان الاجتناب عن المشتبه بالحرام راجحا - تفصيا عن الوقوع في مفسدة الحرام -، فكذلك طرح الخبر الشاذ واجب، لوجوب التحري عند تعارض الخبرين في تحصيل ما هو أبعد من الريب وأقرب إلى الحق، إذ لو قصر في ذلك وأخذ بالخبر الذي فيه الريب احتمل أن يكون قد أخذ بغير ما هو الحجة له، فيكون الحكم به حكما من غير الطرق المنصوبة من قبل الشارع، فتأمل.
[1]. الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج2، ص82-83.
[2]. وسائل الشيعة (آل البيت)، ج27، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، ص162، الحديث 33491/28.
[3]. وسائل الشيعة (آل البيت)، ج27، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، ص161، الحديث 33490/27.