بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه بيست
وما افاده (قدس سره) تام، و مرّ تحقيقه ضمن البحث عن دلالة الاخبار وهو مدعى الشيخ (قدس سره) حسب ما مر منه.
ومعه فان المشكل في كلام المحقق (قدس سره) مضافاً الى عدم تمامية التوعيد في الاخبار الواردة في المقام على نفس التاخير كما مرّ النقاش فيه.
ان التوعيد لا يدل على التضييق في الواجبات الموسعة. و لا يتكفل لتبديلها من الموسع الى المضيق وحصة افراد الواجب فيها على فرد واحد.
بل التوعيد في الاخبار ليس له اكثر من التنبيه على مزيد الاهتمام على التحفظ على الواجب لايقع المكلف في تركه وتفويته.
كما انه لايستفاد من حكم العقل اكثر من ان اي اهتمام في مقام طاعة المولى ومن جملة التعجيل والمبادرة الى الاتيان باول الوجود خوفاً من تفويت غرضه انقياد من العبد بالنسبة الى المولى، والانقياد من اعلى مراتب الاطاعة فيكون حسناً في الادراك العقلي او ممدوحاً في بناء العقلاء حسب اختلاف الاعلام في مستند الاحكام العقلية العملية.
واما تارك الانقياد ليس عاصياً بهذا المناط والمعيار ولذا ليس من ترك اول الوجود للواجب انما اتى بالقبيح عقلاً او بالمذموم عقلاء والالزام من ناحية العقل ـ وان ليس في احكامه غير الادراك دون الالزام وان الالزام يختص بالمولى ـ انما يتصور اذا كان ترك ما يتصف فعله بالحسن قبيحاً، ليقع في الاستلزمات العقلية وان ما حكم به به العقل حكم به الشرع فثبت حسنه شرعاً وقبح تركه كذلك المصحح لعقاب المولى.
وظهر من ذلك:
ان ما افاده الشيخ في المقام بقوله:
«و لا يبعد ان يكون التجري على مثل هذه المعصية ايضاً كبيرة لان قبحه تابع لقبح اصل الفعل.»
انما يريد: ان من ترك التعجيل في الحج ولم ياتي باول الموجود منه مع كونه في معرض الترك انما يكون متجرياً على مولاه والتجري لا يستلزم الا القبح الا ان القبح له مراتب وتختلف مراتبه بحسب اهمية ما اراد تركه.
ولكن المشكل في هذا البيان ان التجري انما يتحقق اذا ترك الواجب اذا علم عدم قدرته على الاتيان به في السنة المتأخرة او السنوات المتاخرة فاقدم على ترك بقصد تقويت ما استقر عليه من التكليف، ثم استكشف بقاء قدرته على الأتيان بالافراد المتاخرة.
واما اذا فرضنا علمه او وثوقه ببقائه وبقاء قدرته على الاتيان بالافراد المتأخرة فترك الواجب في الفرد الاول فليس متجرياً على مولاه ولم يتصف ما فعله بالقبح عقلاً.
ولذا ان الشيخ (قدس سره) كان متوجهاً الى هذا الاشكال وزاد في ذيل ما افاده من عدم استبعاد كون تارك التعجيل متجرياً ويتصف ما فعله من الترك بقبح اشد بالملاحظة الى اهمية ما تركه:
«اما لو علم او وثق بحصول الحج منه في المستقبل فلا معصية بناءً على ما ذكرناه حتى لو اتفق الموت لعدم حصول التجري.»
وهو تام وان ربما يقع فيه المسامحة في التعبير بالمعصية وامثالها الا انه ليس قابلاً للاعتناء بعد كمال دقته في تنقيح المطلب.
والحاصل انه لايتم ما قرره الاعلام من الوجه العقلي لوجوب التعجيل.
تتمة:
قد ظهر من المباحث السابقة ان الاستدلال بالأجماع لوجوب التعجيل شرعاً لا يتم وذلك لان الاجماعات منقولة منها ومحصلة لايحرز كونها اجماعات تعبدية بعد استدلالهم بالاخبار السابقة والوجه العقلي، ولذا لا يتم الاستدلال بها في قبال الاخبار والوجه العقلي.
ومعه لايمكن الموافقة مع ما افاده الشيخ في المقام بان الظاهر الاجماعات المتقدمة هو القول بالفورية الشرعية مع احتمال تنزيل كلماتهم على ما ذكره المحقق من الفورية العقلية لان المال عدم الوثوق.
وذلك: لان ظاهرها وان كان كذلك كظاهر كلمات الاصحاب الا انه ليس مستندها غير ما استظهروه من الاخبار من الوجوب الشرعي او ما ذكره بعضهم من الوجه العقلي، وبعد ما عرفنا من عدم اقتضائهم وجوب التعجيل بنفسه وبذاته وانه لايترتب على ما تركه غير ما يترتب على ترك الواجب، فلا يمكننا الاكتفاء بظاهرها والالتزام بوجوب التعجيل ذاتاً.
فانا قد نرى الاستدلال لوجوب التعجيل بوجوه مختلفة نعلم بعدم تماميتها كما يظهر بالتتبع في كلماتهم (قدس الله اسرارهم).
فان الشيخ المفيد (قدس سره) افاد في المقنعة:
«وفرضه عند آل محمد صلوات الله عليهم على الفور دون التراخي بظاهر القرآن، وما جاء عنهم عليهم السلام:
روى عبد الرحمن بن أبي نجران عن أبي جميلة عن زيد الشحام عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له التاجر يسوف الحج ؟ قال إذا سوفه، وليس له عزم، ثم مات فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام.
وروى صفوان بن يحيى عن ذريح المحاربي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: من مات ولم يحج حجة الإسلام، ولم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق الحج معه، أو سلطان يمنعه فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا.»[1]
وقال السيد في الناصريات:
« المسألة السابعة والثلاثون والمائة:
الأمر بالحج على التراخي.
الذي يذهب إليه أصحابنا: أن الأمر بالحج على الفور، ووافقنا على ذلك أبو يوسف، ورواه عن أبي حنيفة ووافق المزني عليه. وقال الشافعي: الحج على التراخي.
دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه بعد الاجماع المتقدم ذكره: أن الأمر المطلق - وإن لم يكن من مذهبنا أنه يوجب فورا ولا تراخيا في أصل وضع اللغة، وذهبنا إلى أنه على الوقف - فقد قطع الشرع العذر بوجوب حمل الأمر المطلق على الفور، كما قطع العذر بحمله على الوجوب، وإن كان في وضع اللغة لا يقتضي ظاهره وجوبا ولا ندبا.
وقد دللنا على هذه الجملة في مواضع من كلامنا في أصول الفقه، وبينا أن الصحابة والتابعين، ثم تابعي التابعين وإلى وقتنا هذا - يحملون أوامر الشرع في الأحكام الشرعية من كتاب وسنة على الوجوب والفور، وأن أحدا منهم لا يتوقف في ذلك طلبا لدليل فصار هذا العرف الشرعي موجبا لحمل الأوامر الشرعية على الفور، وقد أمر الله تعالى بالحج أمرا مطلقا فيجب أن يكون محمولا على الفور.
وأيضا ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: من وجد من الزاد والراحلة ما يبلغه الحج فلم يحج، فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا.»[2]
وقال الشيخ الطوسي في الخلاف:
« مسألة 22: الحج وجوبه على الفور دون التراخي، وبه قال مالك، وأبو يوسف، والمزني. وليس لأبي حنيفة فيه نص، وقال أصحابه: يجئ على قوله أنه على الفور كقول أبي يوسف.
وقال الشافعي:
وجوبه على التراخي- معناه أنه بالخيار إن شاء قدم وإن شاء آخر والتقديم أفضل - وبه قال الأوزاعي، والثوري، ومحمد.
دليلنا: إجماع الفرقة فإنهم لا يختلفون، وأيضا طريقة الاحتياط تقتضيه. وأيضا فقد ثبت أنه مأمور به، والأمر عندنا يقتضي الفور على ما بيناه في أصول الفقه.
وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله قال: " من أراد الحج فليعجل " فقد أمر بتعجيله.
وأيضا روى أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله قال: " من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى الحج ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا ". فتوعده على التأخير، فلولا أنه يقتضي الفور لم يوعده على تأخيره.»[3]
وقال العلامة في المنتهي:
« البحث الثالث في كيفية وجوبهما. الحج يجب على كل مكف هو مستطيع للحج متمكن من السير من ذكر وأنثى وخنثى وجوبا مضيقا على الفور. قال علماؤنا اجمع. وبه قال ملك واحمد وأبو يوسف ونقله الكرجي وغير ه عن أبي حنيفة.
وقال الشافعي يجب على التراخي وبه قال محمد بن الحسن، لنا قوله تعالى ولله على الناس حج البيت والامر على الفور.
وما رواه الجمهور عن علي (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ملك زادا وراحلة يبلغه إلى بيت الله الحرام ولم يحج فلا عليه ان يموت يهوديا أو نصرانيا. والوعيد مطلقا دليل التضييق.
وكذا ما روى عن أهل البيت (عليهم السلام) وعن زيد الشحام عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت التاجر يسوق الحج قال إذا سوقه وليس عزم ثم مات فقد ترك شريعة من شرايع الاسلام ولان تأخير الواجب تعريض لنزول العقاب لو اتفق الموت خصوصا مع طول المدد إذا تركه يقتضي التأخير سنة وقد يعيش إليها فيجب المبادرة صوما للذمة عن الاشتغال.
ولأنه أحد أركان الاسلام وكان واجبا على الفور كالصيام.
ولأنه عبادة يجب بافسادها الكفارة فكان وجوبها يحل العقد»
[1] . الشيخ المفيد، المقنعة، ص385-386.
[2] . الشريف المرتضي، الناصريات، ص305-306.
[3]. الشيخ الطوسي، الخلاف، ج2، ص257-258.