بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه نوزده
فيمكن ان يقال فيه:ان حفظ النظام العقلائية وعدم اختلاله انما يتقوم برعاية الموازين العقلائية ورعاية الحقوق في مجامعهم، ومن هذه الموازين، الحقوق المقبولة في بنائهم بين الموالي والعبيد. ومن لا يلتزم بحقوق المولى بلا فرق عندهم بين المولى العرفي والمولى الحقيقي مذموم عندهم، فإنهم وان لا نظر عندهم بالعقاب الاخروي في مقام حفظ نظامهم، الا ان العقاب الاخروي من الامور المترتبة على العصيان كالمؤاخذة الدنيوية عندهم. والمعيار في بنائهم في هذا المقام ذم العاصي ومدح المطيع. فالموضوع للذم عندهم العصيان بالنسبة الى المولى.
هذا مع ان من لا يلتزم في رعاية المولى الحقيقي ويبادر الى محتمل العقاب كيف يمكن التزامه برعاية الموالي العرفية. وأساس بناءاتهم رعاية المصالح العامة وليس الراعي لها الا الفرد المنضبط، فلو اتى بما يحتمل ترتب العقاب عليه مع اعتقاده بالمولى الحقيقي فهو عاص غير ملتزم بما يلزمه من رعاية الموازين، وفي هذا المقام لا فرق بين الموازين الشرعية والعقلائية.
وبعبارة اخرى ان النظام العقلائي انما يحافظ عليه بالفرد المسئول، وأهل الرعاية الموازين، وهذا المعنى لا ينطبق على من لا يتحفظ على ما ثبت له من اغراض مولاه. هذا ثم ان ما يترائى من كلامه في تفكيك بناءاتهم في المقام عما عبر (قدس سره) عنها بالبناءات الغير المربوطة بالتحسين والتقبيح العقليين، كالبناء على العمل بالخبر الثقة او الظاهر، حيث يستظهر منها ان للعقلاء بناءان، ما يرتبط بالتحسين والتقبيح العقليين، وما لا يرتبط به.
فيمكن ان يقال فيه:
انه ليس عند العقلاء بناءان بل بناء واحد، وهو استقرار سيرتهم على التحفظ على نظامهم العقلائي، وليس في هذا المقام حكم منهم او بناء بالحسن او القبح، اذ الحسن هو الملائمة التي تدركها القوة العاقلة وكذا القبح هو المنافرة كذلك، وليس في بناء العقلاء الا الذم والمدح.
فلو اراد من بنائهم على التحسين والتقبيح العقليين، ادراك قوتهم العاقلة فليس ذلك غير ما تدركه القوة العاقلة لكل احد، ولذا نقول: ان الشاهد له الوجدان، لأن كل شيء اذا رجع الى عاقلته يكشفه، ولا حاجة الى لحاظ ادراكات العقلاء فيه، ولا اثر لبنائهم في ذلك، نعم ان العقلاء انما تكون بنائاتهم منبعثة عن قوتهم العاقلة، حيث تدرك الحسن في حفظ النظام والقبح في اختلاله، ولكن ما اختاره من المبنى غير مبني على حسن العدل ذاتا او قبح العدل كذلك، وما نعبر عنه بالاستقلال العقلي، هو ادراكه بما يلائم بالقوة العاقلة من حيث ملائمته الذاتية في حكمها او ادراكها بالحسن، وكذلك الأمر بالنسبة الى القبح.
هذا مع ان ما عبر عنه بنائهم على العمل بالخبر او الظاهر، فإنه ليس لهم بناء خاص منفرد بالنسبة اليهما مستقلاً عن سائر بناءاتهم، وقد مر انه لا موضوعية لخبر الثقة او الظاهر عندهم، بل الموضوعية للوثوق، وبما ان خبر الثقة يفيده وكذا الظاهر، فإن بنائهم على العمل به وليس هذا البناء الا بالنسبة الى التعاملات العقلائية بين افراد نظامهم حفظاً لنظامهم، حيث انهم يعتبرون الوثوق في هذه التعاملات، و انما يذمون من لا يعتبره ولا يعمل على طبقه، كما ان بنائهم في حفظ نظامهم على ذم العاصي ومدح المطيع بلا فرق بين الموردين، فلا وجه للتفكيك بينهما.
ومما حققناه قد ظهر ان لزوم دفع الضرر المحتمل ليست قاعدة عقلية ولا عقلائية، وأنه كما افاده (قدس سره) امر جبلي طبعي بل غريزي غير مختص بالانسان، بل الحيوان ايضاً يفر عما يؤذيه او يحتمل ايذائه حباً لنفسه.
ولكن عدم تمامية هذه القاعدة ليس لما حققه (قدس سره) من التفريق بين الاقدام والاتيان بمحتمل المفسدة او مقطوعها، وأفاد بأنه ليس الاقدام موضوعاً مستقلاً في قبال الاتيان بالمفسدة مقطوعها او محتملها.
وذلك لأن قاعدة لزوم دفع الضرر دفع الضرر المحتمل لزوم دفعه بعدم الاتيان، كما انه لو قلنا بلزوم الاقدام على اتيان ما يحتمل المصلحة، فإنه لا تفريق بين الاقدام والاتيان، بأن يكون الاقدام مثلاً مقدمة للاتيان حتى صار بنفسه موضوعاً مستقلاً حتى يقال انه لا يترتب عليه الإ ما يترتب على الفعل، اي ذي المقدمة، بل الموضوع لهذه القاعدة لزوم عدم الاتيان على ما يحتمل العقاب أو الضرر، والاتيان وعدمه بنفسه مصنوع للقبح أو الذم في موارده.
ثم انه (قدس سره) صرح بأنه لا معنى لحكم العقل الارشادي، فإن الارشادية في قبال المولوية من شوؤن الامر، واذ لا بعث ولا زجر فلا معنى لارشادية الحكم العقلي، فهو تعريض لما افاده المحقق النائيني (قدس سره).
قال في أجود التقريرات: «ثم إنه ربما يدعي ان حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي في موارد احتمال الحرمة ومعه لا موضوع لحكمه بالقبح عند المخالفة ولكن فساد هذا الدعوى من الوضوح بمكان فإنه إن أريد من الضرر المحتمل الضرر الأخروي أعني به العقاب فالعقل وإن كان مستقلا بوجوب دفعه ارشاديا وغير مستتبع لحكم شرعي لما ذكرنا سابقا من أن كل حكم عقلي يقع في سلسلة معلولات الحكم الشرعي لا يكون إلا حكما ارشاديا غير مستتبع لحكم شرعي ولا يترتب على مخالفته الا ما يترتب على نفس المرشد إليه إلا أن حكمه بذلك فرع احتمال الضرر وهو متفرع على كون الحكم منجزا على تقدير وجوده...»[1]
[1] . السيد الخوئي، اجود التقريرات تقرير البحث السيد النائيني، ج2، ص186.