بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه نه
وقال الشيخ (قدس سره) في الرسائل:
«الرابع من الأدلة: حكم العقل بقبح العقاب على شئ من دون بيان التكليف.
ويشهد له: حكم العقلاء كافة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف بعدم إعلامه أصلا بتحريمه.
ودعوى: أن حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل بيان عقلي فلا يقبح بعده المؤاخذة، مدفوعة:
بأن الحكم المذكور على تقدير ثبوته لا يكون بيانا للتكليف المجهول المعاقب عليه، وإنما هو بيان لقاعدة كلية ظاهرية وإن لم يكن في مورده تكليف في الواقع، فلو تمت عوقب على مخالفتها وإن لم يكن تكليف في الواقع. لا على التكليف المحتمل على فرض وجوده، فلا تصلح القاعدة لورودها على قاعدة القبح المذكورة، بل قاعدة القبح واردة عليها، لأنها فرع احتمال الضرر أعني العقاب، ولا احتمال بعد حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان. فمورد قاعدة دفع العقاب المحتمل هو ما ثبت العقاب فيه ببيان الشارع للتكليف فتردد المكلف به بين أمرين، كما في الشبهة المحصورة وما يشبهها. هذا كله إن أريد ب " الضرر " العقاب.
وإن أريد به مضرة أخرى غير العقاب - التي لا يتوقف ترتبها على العلم -، فهو وإن كان محتملا لا يرتفع احتماله بقبح العقاب من غير بيان.
إلا أن الشبهة من هذه الجهة موضوعية لا يجب الاحتياط فيها باعتراف الأخباريين، فلو ثبت وجوب دفع المضرة المحتملة لكان هذا مشترك الورود، فلا بد على كلا القولين إما من منع وجوب الدفع، وإما من دعوى ترخيص الشارع وإذنه فيما شك في كونه من مصاديق الضرر، وسيجئ توضيحه في الشبهة الموضوعية إن شاء الله.»[1]
ثم ان الشيخ (قدس سره) نقل عن السيد ابي المكارم ابن زهرة في الغنية: ان التكليف بما لا طريق الى العلم به تكليف بما لا يطاق.
وتبعه بعض من تأخر عنه، فاستدل في مسألة البرائة، والظاهر ان المراد به ما لا يطاق الامتثال به، واتيانه بقصد الطاعة، كما صرح به جماعة من الخاصة والعامة في دليل اشتراط التكليف بالعلم، والا فنفس الفعل لا يصير مما لا يطاق بمجرد عدم العلم بالتكليف به.
ثم انه (قدس سره) ذكر بعد ذلك، احتمال كون الغرض من التكليف صدور الفعل بما هو ولو مع عدم قصد الاطاعة، او كون الغرض من التكليف في حال الشك اتيان الفعلي لداعي حصول الانقياد وقصد احتمال كونه مطلوبا.
ودفعه بما محصله، ان صدور الفعل من الفاعل احياناً لا لداعي التكليف لا يمكن ان يكون غرضا للتكليف، وأنه لو قلنا بكفاية اتيان الشاك بالتكليف بالفعل باحتمال مطلوبية لأغنى ذلك عن التكليف بنفس الفعل.
وحاصل ما افاده الشيخ (قدس سره) في تقرير قاعدة قبح العقاب بلا بيان:
ان القاعدة المزبورة حكم عقلي بقبح العقاب على ترك فعل او الاتيان به من دون بيان للتكليف المتعلق بالعبد من ناحية المولى، وقرر الشاهد للحكم المزبور حكم العقلاء كافة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل اذا لم يسبقه اعلامه بتحريمه.
وظاهر هذا البيان ان الحكم المزبور من القضايا المشهورة التي تطابقت عليه آراء العقلاء حفظاً لنظامهم دون استقلال العقل بذلك حسب ما قرره صاحب الكفاية.
توضيح ذلك:
ان الاحكام العقلية العملية فيها نظران:
الاول:
انها ادراكات للقوة العاقلة وتكون كادراكات سائر القوى من حيث الملائمة والمنافرة، فكما ان القوة اللامسة او الشامة تدرك الاشياء المختلفة ولها ملائمات و منافرات بالنسبة اليه كذلك القوة العاقلة بالنسبة الى الامور الواقعة في حولها لها ملائمات و منافرات والفرق بينها وبين سائر القوى كاللامسة والشامة انها ادراكاتها حسية، وأما العاقلة فادراكاتها عقلية. فإنها في ادراكاتها تارة تلائم المدركات وتارة تنافرها، فإن ما يلائم القوة العاقلة يكون حسناً وما ينافرها يكون قبيحاً. وهذه الادراكات تنتهي الى امرين حسن ما يكون عدلاً وقبح ما يكون ظلماً، فالعدل حسن بحسب ادراكه والظلم قبيح، وهذا ما يعبر عنه بالاحكام العقلية العملية، فحسن العدل ذاتي و كذا قبح الظلم. وجميع الأمور في العالم في ادراكاته انما يحاسب ويلاحظ بالنسبة اليها، فكل ما انطبق عليه عنوان العدل لا نطبق عليه الحكم بالحسن، وكل ما انطبق عليه عنوان الظلم ينطبق عليه الحكم بالعدل، فالحكم بقبح عنوان الظلم وحسن عنوان العدل ذاتي، فالعدل حسن ذاتاً والظلم قبيح ذاتاً. وأما بالنسبة الى ما ينطبق عليه عنوان العدل او الظلم فحكمه بالحسن او القبح اقتضائي.
والحاصل ان الاحكام العقلية العملية تنتهي الى ادراكين للقوة العاقلة حسن العدل و قبح الظلم.
وفي المقام ليس في ادراكات العقل العملي ادراك خاص لقبح العقاب بلا بيان، بل ان العقاب بدونه ظلم عنده فيكون قبيحاً، فهو راجع الى ادراك القوة العاقلة بقبح الظلم.
وفي هذا المسلك ان الضابطة لكون الشيء قبيحاً او حسناً هي ادراك القوة العاقلة لكل انسان، ولذا يكون المعيار ادراكه المعبر عنه بالوجدان، اي يجد كل انسان في قوته العاقلة ما يلائمه فيدرك حسنه وما ينافره فيدرك قبيحه.
الثاني:
ان ما يسمى بالاحكام العقلية العملية لا واقع لها سوى اتفاق العقلاء عملاً على قبح ذلك. فحقيقتها ما تطابقت عليه آراء العقلاء حفظاً لنظامهم وابقاءً لنوعهم و تسمى بالقضايا المشهورة والآراء المحمودة. فإن بنائهم على ذم الظلم ومدح العدل.
فعلى هذا المسلك ليس قبح الظلم ذاتياً بحيث تدركه القوة العاقلة لكل انسان وكذا حسن العدل. فليس الدليل عليه الوجدان. بل الدليل عليه ثبوت البناء المزبور من العقلاء. ووافقهم الشارع بما انه رأس العقلاء و كبيرهم.
هذا ثم ان ظاهر كلام الشيخ (قدس سره) من التوجيه لما قرره من حكم العقل بقبح العقاب على شيء من دون بيان التكليف. يحكم العقلاء كافة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف بعدم اعلامه بتحريمه. المسلك الثاني دون الاول.
ولذا كان تقرير صاحب الكفاية ناظراً الى ما افاده حيث عبر عن الحكم العقلي المذكور، باستقلال العقل العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف المجهول بعد الفحص واليأس عن الظفر بما كان حجة عليه. فلذا افاد (قدس سره) فانهما بدونها عقاب بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان وهما قبيحان بشهادة الواجدان، فإن مراده من شهادة الوجدان ما بيناه بعنوان المعيار لتشخيص ادراك العقل من ادراك القوة العاقلة للاشياء بحسب ما يلائمها و ما ينافرها. وهذا المعيار قابل للتحقق لكل انسان بمراجعته بقوته العاقلة، فإنه بعد ما كان حسن العدل ذاتياً وكذا قبح الظلم، فيدركه القوة العاقلة لكل انسان ولذا يعبر عنه بالوجدان.
نعم، يمكن ان يقال:
ان نظر الشيخ (قدس سره) الى المسلك الاول، لكنه قرر الشاهد له حكم العقلاء كافة لا من جهة ان بنائهم كان على ذلك، بل من جهة ان كل عاقل اذا رجع الى قوته العاقلة يدرك هذا القبح، وإن اتفاقهم على ذلك من جهة ان حسن العدل ذاتي وكذا قبح الظلم، ولذا يدركه كل عاقل، واتفاق العقلاء على ذلك كاشف عن ذلك.
وبهذا الاعتبار لو كان بناء من العقلاء على ذم الظلم ومدح العدل انما نشأ ذلك من ادراكاتهم بحسب القوة العاقلة فيهم.
وهذا المعنى وإن يحتمل قوياً الا ان ظاهر كلام الشيخ يوهم غيره.
وبالجملة: ان صاحب الكفاية (قدس سره) في تقريره لحكم العقل كان في مقام تصحيح كلام الشيخ و توجيهه. فصرح بأن الحكم المذكور من المستقلات العقلية والشاهد عليه الوجدان.
[1]. الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج2، ص56-57.