بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه صد و هشت
اما الكلام في جهة دلالتها:
قال الشيخ (قدس سره) في الرسائل:
«وتقريب الاستدلال كما في شرح الوافية:
أن معنى الحديث: أن كل فعل من جملة الأفعال التي تتصف بالحل والحرمة، وكذا كل عين مما يتعلق به فعل المكلف ويتصف بالحل والحرمة، إذا لم يعلم الحكم الخاص به من الحل والحرمة، فهو حلال، فخرج ما لا يتصف بهما جميعا: من الأفعال الاضطرارية، والأعيان التي لا يتعلق بها فعل المكلف، وما علم أنه حلال لا حرام فيه أو حرام لا حلال فيه. وليس الغرض من ذكر الوصف مجرد الاحتراز، بل هو مع بيان ما فيه الاشتباه.
فصار الحاصل: أن ما اشتبه حكمه وكان محتملا لأن يكون حلالا ولأن يكون حراما فهو حلال، سواء علم حكم كلي فوقه أو تحته - بحيث لو فرض العلم باندراجه تحته أو تحققه في ضمنه لعلم حكمه - أم لا.
وبعبارة أخرى: أن كل شئ فيه الحلال والحرام عندك - بمعنى أنك تقسمه إلى هذين وتحكم عليه بأحدهما لا على التعيين ولا تدري المعين منهما - فهو لك حلال.
فيقال حينئذ: إن الرواية صادقة على مثل اللحم المشترى من السوق المحتمل المذكى والميتة، وعلى شرب التتن، وعلى لحم الحمير إن لم نقل بوضوحه وشككنا فيه، لأنه يصدق على كل منها أنه شئ فيه حلال وحرام عندنا، بمعنى أنه يجوز لنا أن نجعله مقسما لحكمين، فنقول: هو إما حلال وإما حرام، وأنه يكون من جملة الأفعال التي يكون بعض أنواعها أو أصنافها حلالا وبعضها حراما، واشتركت في أن الحكم الشرعي المتعلق بها غير معلوم، انتهى.»[1]
هذا ما نقله الشيخ (قدس سره) في تقريب الاستدلال بالحديث عن السيد الصدر في شرح الوافية، ثم افاد نفسه:
«أقول: الظاهر أن المراد بالشئ ليس هو خصوص المشتبه، كاللحم المشترى ولحم الحمير على ما مثله بهما، إذ لا يستقيم إرجاع الضمير في " منه " إليهما، لكن لفظة " منه " ليس في بعض النسخ.
وأيضا: الظاهر أن المراد بقوله (عليه السلام): " فيه حلال وحرام " كونه منقسما إليهما، ووجود القسمين فيه بالفعل، لا مرددا بينهما، إذ لا تقسيم مع الترديد أصلا، لا ذهنا ولا خارجا. وكون الشئ مقسما لحكمين - كما ذكره المستدل - لم يعلم له معنى محصل، خصوصا مع قوله ( قدس سره ): إنه يجوز ذلك، لأن التقسيم إلى الحكمين الذي هو في الحقيقة ترديد لا تقسيم، أمر لازم قهري لا جائز لنا.
وعلى ما ذكرنا، فالمعنى - والله العالم -: أن كل كلي فيه قسم حلال وقسم حرام - كمطلق لحم الغنم المشترك بين المذكى والميتة - فهذا الكلي لك حلال إلى أن تعرف القسم الحرام معينا في الخارج فتدعه.
وعلى الاستخدام يكون المراد: أن كل جزئي خارجي في نوعه القسمان المذكوران، فذلك الجزئي لك حلال حتى تعرف القسم الحرام من ذلك الكلي في الخارج فتدعه.
وعلى أي تقدير فالرواية مختصة بالشبهة في الموضوع. وأما ما ذكره المستدل من أن المراد من وجود الحلال والحرام فيه احتماله وصلاحيته لهما، فهو مخالف لظاهر القضية، ولضمير " منه " ولو على الاستخدام.
ثم الظاهر: أن ذكر هذا القيد مع تمام الكلام بدونه - كما في قوله ( عليه السلام ) في رواية أخرى: " كل شئ لك حلال حتى تعرف أنه حرام " - بيان منشأ الاشتباه الذي يعلم من قوله (عليه السلام): " حتى تعرف "، كما أن الاحتراز عن المذكورات في كلام المستدل أيضا يحصل بذلك.»[2]وهذا ما افاده (قدس سره) في مقام تقريب الاستدلال بالحديث، وبيان ان حد دلالته الاختصاص بالشبهات الموضوعية دون الحكمية.
ثم انه (قدس سره) ذكر بعد ذلك اشكالين:
احدهما ما نقله عن بعض المعاصرين وهو المحقق النراقي في مناهج الاحكام حسب ما ذكره المحقق الاشتياني في بحر الفوائد، وأفاد بأنه (قدس سره) بعد الاعتراف بما ذكره الشيخ (قدس سره) من ظهور القضية في الانقسام الفعلي وأنها لا تشمل مثل شرب التتن، قال انتصاراً للسيد الصدر في الوافية:
«أنا نفرض شيئا له قسمان حلال وحرام، واشتبه قسم ثالث منه كاللحم، فإنه شئ فيه حلال وهو لحم الغنم وحرام وهو لحم الخنزير، فهذا الكلي المنقسم حلال، فيكون لحم الحمار حلالا حتى تعرف حرمته.»
وأورد عليه الشيخ (قدس سره): «وجه الفساد: أن وجود القسمين في اللحم ليس منشأ لاشتباه لحم الحمار، ولا دخل له في هذا الحكم أصلا، ولا في تحقق الموضوع، وتقييد الموضوع بقيد أجنبي لا دخل له في الحكم ولا في تحقق الموضوع، مع خروج بعض الأفراد منه مثل شرب التتن - حتى احتاج هذا المنتصر إلى إلحاق مثله بلحم الحمار وشبهه مما يوجد في نوعه قسمان معلومان، بالإجماع المركب -، مستهجن جدا لا ينبغي صدوره من متكلم فضلا عن الإمام (عليه السلام). هذا، مع أن اللازم مما ذكر عدم الحاجة إلى الإجماع المركب، فإن الشرب فيه قسمان: شرب الماء وشرب البنج، فشرب التتن كلحم الحمار بعينه، وهكذا جميع الأفعال المجهولة الحكم. وأما الفرق بين الشرب واللحم بأن الشرب جنس بعيد لشرب التتن بخلاف اللحم، فمما لا ينبغي أن يصغى إليه. هذا كله، مضافا إلى أن الظاهر من قوله: " حتى تعرف الحرام منه " معرفة ذلك الحرام الذي فرض وجوده في الشئ، ومعلوم أن معرفة لحم الخنزير وحرمته لا يكون غاية لحلية لحم الحمار.»
ثانيهما: ما نقله عن المحقق القمي في القوانين قال:
وقد أورد على الاستدلال: «بلزوم استعمال قوله ( عليه السلام )»: " فيه حلال وحرام " في معنيين:
أحدهما: أنه قابل للاتصاف بهما - وبعبارة أخرى: يمكن تعلق الحكم الشرعي به - ليخرج ما لا يقبل الاتصاف بشئ منهما.
والثاني: أنه ينقسم إليهما ويوجد النوعان فيه إما في نفس الأمر أو عندنا، وهو غير جائز.
وبلزوم استعمال قوله (عليه السلام): " حتى تعرف الحرام منه بعينه " في المعنيين أيضا، لأن المراد حتى تعرف من الأدلة الشرعية " الحرمة "، إذا أريد معرفة الحكم المشتبه، وحتى تعرف من الخارج - من بينة أو غيرها - " الحرمة "، إذا أريد معرفة الموضوع المشتبه فليتأمل.»[3]
وأفاد الشيخ بعد نقل كلام القوانين، «وليته أمر بالتأمل في الإيراد الأول أيضا، ويمكن إرجاعه إليهما معا، وهو الأولى.»، ولم يتعرض بدفعه تفصيلا، لوضوح ما فيه من الاشكال عنده (قدس سره).
[1]. الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج2، ص45-46.
[2]. الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج2، ص47-48.
[3]. الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج2، ص48-49.