بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه صد و چهار
قال في الرسائل:
أن الظاهر مما حجب الله علمه ما لم يبينه للعباد، لا ما بينه واختفى عليهم بمعصية من عصى الله في كتمان الحق أو ستره، فالرواية مساوقة لما ورد عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): "إن الله تعالى حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تعصوها، وسكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها، رحمة من الله لكم"[1] »[2]
وأورد على هذا الاشكال سيدنا الاستاذ (قدس سره)، وأفاد (قدس سره) بأن الحديث من حيث شموله للشبهة الحكمة اظهر من حديث الرفع بعد ذكر مقدمة قال:
«وتقريب الاستدلال به: أنه يدل على أن الحكم المجهول موضوع عن العباد، وهو من حيث شموله للشبهة الحكمية أظهر من حديث الرفع، إذ لا يتأتى فيه اشكال وحدة السياق لعدم الموضوع له، بل المتيقن منها بقرينة اسناد الحجب إلى الله إرادة الشبهة الحكمية، فإنه يتناسب مع إرادة الحكم الكلي المجهول كما لا يخفى. وقد نوقش في الاستدلال بها.
وتحقيق الكلام فيه:
ان الحكم المجهول تارة: يكون حكما انشائيا صرفا لم يبين إلى الناس لبعض المصالح، ولم يؤمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الأئمة (صلوات الله عليهم) بتبليغه إليهم.
وأخرى: يكون حكما فعليا بلغ إلى الناس وبين لهم، ولكنه خفي علينا ولم يصل الينا لبعض الأسباب من ظلم الظالمين وغيره.
ولا يخفى ان محل الكلام في باب البراءة هو النحو الثاني، فالبحث يقع في أنه إذا احتمل صدور الحكم إلى الناس ولكنه خفي علينا بحيث لو اطلعنا عليه لوجب علينا امتثاله، فهل تجري البراءة أو الاحتياط؟
أما النحو الأول: فهو ليس محل الكلام بين الأصوليين والأخباريين، بل احتماله لا يوجب الاحتياط قطعا ولا يعتنى به أصلا، إذ هو مما سكت الله تعالى عنه، وقد ورد الحديث عن أمير المؤمنين (عليه السلام) بالأمر بالسكوت عنه.
إذا تبين ذلك، نقول: انه قد ادعي ان الحديث المزبور ناظر إلى النحو الأول من الاحكام، فلا دلالة له على البراءة فيما نحن فيه وهو النحو الثاني، بل يكون مساوقا للحديث الشريف المروي عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الذي أشرنا إليه.
وفي تقريبه وجهان:
أحدهما: ما أشار إليه صاحب الكفاية (قدس سره) من أن الجهل بالحكم بالنحو الثاني لم يكن سببه الله تعالى، إذ هو أمر بتبليغه وبلغ، وإنما نشأ عن إخفاء الظالمين للاحكام ومنعهم من انتشارها وتدليس المدلسين وغير ذلك من الأسباب الخارجية. بخلاف الجهل بالنحو الأول، فإنه ناشئ من عدم أمر الله تعالى بتبليغه وبيانه.
وعليه، فلا يصح نسبة الحجب إلى الله سبحانه بلحاظ الجهل بالنحو الثاني، ويصح نسبته إليه بلحاظ النحو الأول، فلا بد من حمل الحديث على إرادة النحو الأول من الاحكام.
وهذا الوجه مردود: بان الأسباب الخارجية التي تكون سببا لخفاء النحو الثاني من الاحكام. تارة: لا تكون من الأفعال الاختيارية للعباد، بل من الأسباب التكوينية، كضياع كتب الحديث بواسطة غرق أو عارض سماوي ونحو ذلك.
وأخرى: تكون من الأفعال الاختيارية كوضع الوضاعين واتلاف الظالمين لكتب الحق. ولا يخفى أنه يصح نسبة الحجب إلى الله تعالى إذا كان سبب الخفاء هو العوارض السماوية ونحوها مما لا تتدخل فيها إرادة العباد.
وأما إذا كان سبب الخفاء هو الفعل الاختياري للعبد، فتصح نسبته إلى الله تعالى بلحاظ ما هو المذهب الحق من الالتزام بالأمر بين الامرين، فأن الفعل الصادر من العبد، كما تكون له نسبة إلى العبد تكون له نسبته إلى الله سبحانه بملاحظة انه بيده وجود العبد، كما حقق في محله.
نعم، من يقول بالتفويض لا يصحح نسبة العبد الاختياري إلى الله سبحانه، ولكنه خلاف ما نعتقد به نحن الامامية أعلى الله كلمتنا ببركة محمد وآله (صلوات الله وسلامه عليهم). إذن فكما يصح نسبة الحجب إلى الله سبحانه في مورد الجهل بالنحو الأول من الاحكام، كذلك يصح نسبته إليه تعالى في مورد الجهل بالنحو الثاني.
الوجه الاخر: أنه وان صح نسبة الحجب إليه تعالى، لكن الظاهر العرفي من إسناد الحجب إليه تعالى هو إرادة ما إذا كان الاخفاء بأمره، إذ لا يسند الحجب إليه عرفا إذا كان الاخفاء على خلاف أمره، بل كان بواسطة الظلم المحرم المبغوض إليه، فيختص الحديث بالنحو الأول من الاحكام.
وهذا الوجه لا يخلو عن صورة وجيهة.
لكن يمكن أن ينحل الاشكال: بأن ظاهر قوله (عليه السلام): "ما حجب الله علمه" هو ثبوت الحكم في نفسه في الواقع، إذ الحجب متعلق بالعلم به، فإنه ظاهر في أن الحكم له تقرير وثبوت في الواقع . فيراد من الموصول هو الحكم الثابت المجهول، كما أن ظاهر قوله: " فهو موضوع عنهم " أنه في مقابل الوضع عليهم ارفاقا بالعباد وتسهيلا عليهم، وحينئذ فيختص بالاحكام التي تكون قابلة للوضع على العباد فوضعها الله عنهم ارفاقا بهم .
والحكم القابل للوضع على العباد هو الحكم الفعلي الصادر المبين لبعض الناس وإن خفي بعد ذلك، فإنه قابل للوضع الظاهري في حال الجهل بجعل ايجاب الاحتياط. أما الحكم الانشائي المختص بعلم الله تعالى فقط أو مع النبي والأئمة ( عليهم السلام ) الذي لم يبين إلى أحد لمصلحة تقتضي ذلك، فليس هذا بقابل للوضع على العباد كي يرفع عنهم، ولا موهم لوضعه عليهم بعد فرض عدم تبليغه وبيانه، لقصور في مقتضيه أو لغير ذلك. ولذا لو تعلق به العلم - فرضا - لا يجب امتثاله واطاعته، بل قد لا يسمى حكما لدى العرف فلا يكون الكلام لديهم ظاهرا في كونه هو المنظور به. ومع هذا الظهور لا مجال لدعوى الظهور السابق الذي أريد به دفع دلالة الحديث على البراءة . إذن فالحديث من أدلة البراءة، ومقتضى إطلاق الموصول إرادة مطلق الحكم أعم من موارد الشبهة الحكمية وموارد الشبهة الموضوعية.»[3]
ويمكن ان يلاحظ فيما افاده:
بان اساس كلامه (قدس سره) دفع محذورين عن الاستدلال بالآية الشريفة في المقام.
الاول: مامر من صاحب الكفاية، وقبله ذكره الشيخ (قدس سره) بان اسناد الحجب الي الله سبحانه ظاهر في عدم ارادته تعالي بتعليقه وبيانه.
فاجاب عنه بان الفعل الصادر من العبد كما ينسب اليه ينسب الي الله بناء علي ما هو الحق من الامر بين الامرين، وعليه فمثل ايجاد المانع للايصال الصادر من العبد جاز اسناده الي الله تعالي.
وهذا ما قرره السيد الخوئي (قدس سره) ببيان اخر:
« بأن الموجب لخفاء الاحكام التي بينها الله تعالى بلسان رسوله صلى الله عليه وآله وأوصيائه ( عليهم السلام ) وان كان هو الظالمين، إلا أنه تعالى قادر على بيانها بأن يأمر المهدي عليه السلام بالظهور وبيان تلك الأحكام، فحيث لم يأمره بالبيان لحكمة لا يعلمها إلا هو، صح اسناد الحجب إليه تعالى. هذا في الشبهات الحكمية. وكذا الحال في الشبهات الموضوعية، فان الله تعالى قادر على اعطاء مقدمات العلم الوجداني لعباده، فمع عدم الاعطاء صح اسناد الحجب إليه تعالى، فصح الاستدلال بهذا الحديث على البراءة في الشبهات الحكمية والموضوعية كحديث الرفع.»[4]
[1] . نهج البلاغة، ص 487، الحكمة 105 .
[2] . الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج2، ص41.
[3] . الشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم، منتقى الأصول تقرير البحث السيد محمد الروحاني، ج 4، ص420-423.
[4]. البهسودي، مصباح الأصول تقرير البحث السيد الخوئي، ج2، ص271 - 272.