بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه هشتاد
وعليه، فما نقربه ليس خرقا لاجماع أو مناهضة لضرورة. نعم الذي يوقعنا عن الجزم بهذا الامر هو ان المتيقن من الحديث هو إرادة الشبهة الموضوعية. وقد عرفت أن النصوص كثيرة على بقاء الحكم الواقعي وثبوته فيها، فلا يسعنا الالتزام بان الرفع واقعي في المقام.
ثم إنه لو لم نلتزم بذلك، فهل يتكفل حديث الرفع جدا حكما وجوديا، أم ان المراد الجدي منه هو الرفع تمسكا بالتعبير على حدة؟
الذي نستظهره هو أن المقصود الجدي من الكلام هو جعل الحلية الظاهرية، ولكن كني عنها برفع الحكم، لأنه استعمال شائع عرفا، فإنه كثيرا ما تؤدى حلية الشئ بالتعبير بعدم المانع منه، ويكون المولى في مقام بيان حلية الشئ، فيعبر بأنه لا مانع منه. إذن فالمنشأ جدا بحديث الرفع هو الحلية الظاهرية لا رفع الحكم، نظير قوله (عليه السلام): "كل شئ لك حلال . . ."، لكنه يؤدي الحلية مطابقة وحديث الرفع يؤديها كناية. وهذا المعنى التزم به الشيخ وإن لم يصرح به ولكنه التزم بلازمة كما سيأتي التنبيه عليه.
وبناء على هذا الظهور فتحقيق نسبته مع دليل الاحتياط أن يقال: إنه ان قيل إن الحلية الظاهرية ملازمة لرفع الحرمة واقعا دفعا لمحذور اجتماع الحكم الظاهري والواقعي، كان الحديث على هذا حاكما على دليل الاحتياط، وذلك لأنه يدل بالدلالة الالتزامية على نفي الواقع، فيرفع موضوع وجوب الاحتياط الذي هو احتمال الواقع، فيكون من باب قيام الامارة على عدم موضوع حكم آخر، ولا يتوقف أحد في حكومتها على الدليل الاخر.
وهكذا الحال في قوله (عليه السلام): "كل شئ لك حلال . . ." لأنه يدل بالملازمة على نفي الحرمة الواقعية.
وإن لم يلتزم بان الحكم الظاهري ملازم لارتفاع فعلية الواقع، بل الواقع على فعليته مع قيام الحكم الظاهري - كما عليه المحقق النائيني (رحمه الله)-، فقد يتخيل تعارض هذا الحديث مع دليل الاحتياط.
ولكنه يتم في مثل: " كل شئ لك حلال . . ."، لا في مثل حديث الرفع، لان واقعه وإن كان جعل الحلية، لكنه بلسان رفع الواقع وهو يكفي في الحكومة، إذ النظر في مقام الحكومة إلى لسان الدليلين ونظر أحدهما إلى موضوع الاخر.
وإلا فالحكومة تشترك مع التخصيص ومرجعها إلى رفع الحكم عن الموضوع المنفي تنزيلا. فحديث الرفع ينظر بحسب لسانه اللفظي إلى موضوع دليل الاحتياط ويتصرف فيه. فلاحظ.
ولو لم يلتزم بما استظهرناه من: أن المنشأ في الحديث هو الحلية الظاهرية، والتزم بمدلوله المطابقي الصريح، وهو رفع الحكم ظاهرا عند عدم العلم، فيقع البحث في متعلق الرفع الظاهري، وأنه هو الحكم الواقعي نفسه أو وجوب الاحتياط؟
يمكن أن يقرب تعلقه بنفس الواقع ظاهرا: بان الرفع إنما يصلح أن يتوجه ويتعلق بالحكم إذا كان أمر وضعه بيد المولى، وإلا فيمتنع عليه رفعه.
وعليه، فنقول: ان الحكم الواقعي في ظرف الجهل يمكن ان يوضع على المكلف ظاهرا بجعل ايجاب الاحتياط عليه، فايجاب الاحتياط يكون سببا لنحو ثبوت للحكم الواقعي يصحح اسناد الوضع إليه، فعدم جعل ايجاب الاحتياط في هذا الظرف، يكون رفعا للواقع حقيقة، فيصح تعلق الرفع حقيقة بالواقع بلحاظ عدم جعل ايجاب الاحتياط. نظير نفي الاحراق بلحاظ نفي سببه وهو النار.
وعلى هذا، فلا ملزم للالتزام بان المرفوع رأسا وحقيقة هو ايجاب الاحتياط كما هو ظاهر الشيخ في قوله: "والحاصل: ان المرتفع فيما لا يعلمون وأشباهه مما لا يشملها أدلة التكليف هو ايجاب التحفظ على وجه لا يقع في مخالفة الحرام الواقعي".
أما قوله: "معنى رفع أثر التحريم فيما لا يعلمون عدم إيجاب الاحتياط"، فهو يحتمل الامرين وان استشهد به المحقق النائيني على ما نسبه إليه من كون المرفوع رأسا وجوب الاحتياط، فالنكتة التي تنحل بها المشكلة هي ما عرفت من أنه يكون للواقع بايجاب الاحتياط نحو جعل ووضع، فيصح اسناد الرفع إليه حقيقة برفع سببه وهو ايجاب الاحتياط.
نعم لو لم يكن ايجاب الاحتياط مصححا لوضع الواقع ونسبة الجعل إليه، لم يكن رفعه مصححا لاسناد الرفع إلى الواقع حقيقة، إذ جعل الواقع حينئذ لا يكون بيد الشارع كي يرفعه.
وقد عبر عما أوضحناه من تصحيح نسبة الرفع إلى الواقع صاحب الكفاية بعبارة مختصرة أشار فيها إلى النكتة، فقال:" فالالزام المجهول مما لا يعملون فهو مرفوع فعلا، وإن كان ثابتا واقعا، ولا مؤاخذة عليه قطعا"
حيث جعل الرفع متعلقا بنفس الحكم الواقعي في مرحلة الفعلية مع الالتزام بثبوته الواقعي، وهو معنى الرفع الظاهري، ولم يلتزم بتعلق الرفع رأسا بايجاب الاحتياط. نعم ذكر بعد ذلك أن مقتضى رفع الواقع هو رفع ايجاب الاحتياط، وقد تقدم تقريبه. فإن في تعبيره: "فلا مؤاخذة عليه" وعدم تعبيره برفع المؤاخذة ملحوظة مهمة، وهي الفرار من الاشكال بان المؤاخذة ليست من الأمور الشرعية القابلة للرفع والوضع، إذ هو التزم بارتفاعها لا برفعها، وارتفاعها إنما هو لاجل عدم تحقق موضوعها بعد أن كان الحديث دالا على رفع الواقع ورفع ايجاب الاحتياط، فهي ترتفع عقلا ولا ترفع شرعا.»[1]
[1] . الشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم، منتقى الأصول تقرير البحث السيد محمد الروحاني، ج 4، ص386-390.