بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه سي و يك
الرابع:
لم يتعرض صاحب الكفاية (قدس سره) لتنقيح مجاري الاصول العملية في متن الكفاية، وإنما تعرض له في حاشيته على الفرائد تعريضاً على ما حققه الشيخ في هذا المقام.
قال الشيخ (قدس سره) في اول مباحث القطع: « اعلم: أن المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي، فإما أن يحصل له الشك فيه، أو القطع، أو الظن. فإن حصل له الشك، فالمرجع فيه هي القواعد الشرعية الثابتة للشاك في مقام العمل، وتسمى ب " الأصول العملية"، وهي منحصرة في أربعة، لأن الشك: إما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا.
وعلى الثاني: فإما أن يمكن الاحتياط أم لا. وعلى الأول: فإما أن يكون الشك في التكليف أو في المكلف به. فالأول مجرى الاستصحاب، والثاني مجرى التخيير، والثالث مجرى أصالة البراءة، والرابع مجرى قاعدة الاحتياط.»[1]
وظاهر ما افاده هنا:
ان مجرى التخيير ما لا يمكن فيه الاحتياط بلا فرق بين ان يكون الشك في التكليف كدوران حكم شيء بين الوجوب او الحرمة والاباحة، او في المكلف به كدوران الامر بين المحذورين، فما يعتبر في مجرى التخيير شرط واحد وهو عدم امكان الاحتياط من دون لحاظ كون الشك في التكليف او في المكلف به.
ومجرى البرائة: الشك في التكليف مع امكان الاحتياط، ومجرى الاشتغال: الشك في المكلف به مع امكان الاحتياط.
ومجرى الاستصحاب:
ما لوحظ فيه الحالة السابقة بلا فرق بين ان يكون الشبهة في التكليف او في المكلف به، وبلا لحاظ امكان الاحتياط فيه وعدم امكانه.
هذا وقد افاد بعد ذكر هذا العبارة في المتن حسب بعض نسخ ـ بعنوان وبعبارة اخرى، وفي الحاشية حسب بعض اخر من النسخ ـ
« وبعبارة أخرى: الشك إما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أو لا، فالأول مجرى الاستصحاب، والثاني: إما أن يكون الشك فيه في التكليف أو لا، فالأول مجرى أصالة البراءة، والثاني: إما أن يمكن الاحتياط فيه أو لا، فالأول مجرى قاعدة الاحتياط، والثاني مجرى قاعدة التخيير.»[2]
ففي هذه العبارة ان مجرى الاستصحاب هو ما لوحظ الحالة السابقة كالعبارة السابقة.
وأما مجرى اصالة البرائة الشك في التكليف، فالمعتبر فيه كون الشك في نفس التكليف، وأما امكان الاحتياط فلم يثبت اعتباره فيه، وكان هو مأخوذاً في مجرى البرائة في العبارة السابقة.
ومجرى قاعدة الاشتغال: ما لا يكون الشك فيه في التكليف، مع امكان الاحتياط، ومجرى قاعدة التخيير كون الشك في غير التكليف مع عدم امكان الاحتياط.
وقال الشيخ (قدس سره) في اوائل بحث البرائة:
«ثم إن انحصار موارد الاشتباه في الأصول الأربعة عقلي، لأن حكم الشك إما أن يكون ملحوظا فيه اليقين السابق عليه، وإما أن لا يكون، سواء لم يكن يقين سابق عليه أم كان ولم يلحظ، والأول هو مورد الاستصحاب.
والثاني إما أن يكون الاحتياط فيه ممكنا أم لا، والثاني مورد التخيير، والأول إما أن يدل دليل عقلي أو نقلي على ثبوت العقاب بمخالفة الواقع المجهول وإما أن لا يدل.
والأول مورد الاحتياط، والثاني مورد البراءة.
وقد ظهر مما ذكرنا: أن موارد الأصول قد تتداخل، لأن المناط في الاستصحاب ملاحظة الحالة السابقة المتيقنة، ومدار الثلاثة الباقية على عدم ملاحظتها وإن كانت موجودة.»[3]
وظاهر هذه العبارة ان مجري التخيير عدم امكان الاحتياط سواء كان الشك في التكليف او في المكلف به.
ومورد الاشتغال امكان الاحتياط مع ثبوت العقاب بمخالفة الواقع حتي في حالة الجهل بالحكم الواقعي.
واورد عليه صاحب الكفاية (قدس سره) في حاشية علي الرسائل:
« ان الشك اما أن يلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا، والأول مجرى الاستصحاب، وعلى الثاني اما أنه مما يمكن فيه الاحتياط وان لم يكن الشك في أصل الالزام، بل كان الالزام في الجملة معلوما، كما إذا دار الامر بين وجوب شئ وحرمة شئ آخر، أو دار الوجوب أو الحرمة بين شيئين، حيث إنه يمكن الاحتياط فيهما، أو كان الشك فيه وان لم يمكن فيه الاحتياط أم لا، الثاني مجري التخيير، وعلى الأول اما أن يكون في البين حجة ناهضة على التكليف عقلا أو نقلا أم لا، الأول مجرى الاحتياط والثاني مجرى البراءة.
و ذلك لعدم انتقاض واحد من المجاري بالاخر طرداً و عكساً، بخلاف ما ذكره هاهنا، و في أصل البراءة كما بينّاه فيما علّقناه و حققناه سابقاً ما ملخّصه:
هو انتقاض مجرى كل واحد من البراءة و الاحتياط بمجرى الاخر طرداً و عكساً في كلتا العبارتين بما إذا دار الأمر بين وجوب شيء و حرمة شيء اخر، حيث انّ قضيّتهما ان يكون مجرى البراءة، حيث انّه شكّ في التّكليف، و يمكن فيه الاحتياط، و مختاره فيه الاحتياط، و انتقاض كلّ من مجرى البراءة و التّخيير بالاخر، طرداً و عكساً في العبارة الأولى، بما إذا دار الأمر بين الوجوب و الحرمة و الإباحة في شيء واحد، حيث انّه ممّا لا يمكن فيه الاحتياط، و قد جعل فيها مطلقا ضبطاً لمجرى التّخيير، و مختاره فيما كان منه كذلك البراءة.
و في العبارة الأخرى بما إذا دار الأمر بين الوجوب و الحرمة في شيء واحد، فانّ الشّك فيه في التكليف، و قضيّة الإطلاق في ضبط مجرى البراءة فيها ان يكون مجرى البراءة، و هو على مختاره من مجاري التخيير، انتهى.و لا يخفى ما في عبارته قدس سره في أول مسألة أصالة البراءة من الاختصاص بانتقاض كل واحد من مجرى التّخيير و البراءة بالاخر بخصوص ما يختصّ به العبارة الأولى من دون انتقاض اخر يشارك فيه الأخرى، كما لا يخفى. لكن هذا كلّه انّما هو على تقدير ان يكون المراد من التّكليف نوعه الخاصّ من الإيجاب أو التّحريم، كما نصّ عليه في أول مسألة أصالة البراءة، و مما أمكن فيه الاحتياط، ما أمكن فيه الاحتياط التّام، لا ما إذا أريد مطلق الإلزام، و ما يمكن فيه الاحتياط في الجملة، حيث انّ دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة في شيء أو في شيئين على هذا من الشّك في المكلّف به، لا في التكليف، و دوران الأمر بين الوجوب و الحرمة و الإباحة مما يمكن فيه الاحتياط في الجملة بالتزام جانب الإلزام، و معاملة الواجب معه أو الحرام، دون الأخذ باحتمال الإباحة و معاملة المباح لأقلية احتمال خلاف الواقع معه كما لا يخفى.
ثم انّ سلامة ضبط مجاري الأصول في العبارة الّتي قد ذكرناها، انّما هو على المختار من حجيّة الاستصحاب مطلقا. و اما على مختاره من عدم حجّيته في الشّك في المقتضى، فما ذكر فيها ضبطاً لمجراه و مجرى ساير الأصول من غير تفاوت فيها أصلاً، منتقض عكساً و طرداً، فلا جرم عليه ان يقيد مجرى الاستصحاب بكون تلك الحالة الملحوظة تبقى بنفسها لو لم يرفعها رافع.
ثم انّ المراد من التّخيير، و ان كان هو التخيير في العمل بعد التوقّف عن الحكم في مقام الفتوى و هو لم يتميّز عن البراءة عملاً أصلاً؛ إلاّ انّ ملاكه قبح التّرجيح بلا مرجّح مع عدم التّمكن من مراعاة الواقع، بخلافه فيها، فانّه قبح العقاب بلا بيان مع التّمكن من مراعاته بالاحتياط. و بعبارة أخرى، انّ ترخيص العقل في الاقتحام فعلاً أو تركاً في مورد التّخيير، انّما هو لعدم التّرجيح في أحدهما، و عدم تمكنه من تمام المراعاة بالاحتياط، و من تركه هذا المقدار من المراعاة مع علمه الإجماليّ الّذي لو لا ذلك، كفى به برهاناً و بياناً، و فيها انّما هو لقبح العقاب بلا بيان، مع انّ مراعاة التّكليف المجهول في موردها بمكان من الإمكان.»[4]
[1] . فرائد الاصول، ج1، ص25.
[2] . فرائد الاصول، ج1، ص26.
[3] . فرائد الاصول، ج2، ص14.
[4] . آخوند خراسانی، درر الفوائد في الحاشیة علی الفرائد، ص 23 -24.