بسم اللخه الرحمن الرحيم
جلسه بيست و سه
ومعنى المعرفة وما يعير عنه بـ «شناخت» في الفارسية احاطتهم ووقوفهم على جميع الامور التي كانت حولهم حسب درجات الاحتمال، لان كل هذه الامور تبدء معرفتها من الاحتمال الى العلم، والاحتمال عندهم، ما يعبر عنه بالاحتمال العقلائي وهو ما لا يمكن الغفلة عنه و يلزم التوجه اليه.
والعلم عندهم بلوغ درجة الاحتمالات في القوة الى حد كان احتمال الخلاف فيه غير قابل للاعتناء. وهذا ما يعبر عنه بالوثوق والاطمينان وان التزمنا فيما مر بان الوثوق هو الاحتمال الراجح الذي كان احتمال خلافه غير قابل للاعتناء، والاطمينان هو الاحتمال الراجح الذي كان احتمال الخلاف مما لا يرى عندهم، وعلى اي حال لا فرق بينهم على حد كان موضوعاً للاثر الا ان المهم هنا ان الاحتمال الراجح المذكور يعتبر به خصوصاً الاطمينان يعد عندهم علماً ويعبر عنه بالعلم العرفي وهو غير العلم العقلي الذي يكون مائة بالمائة.
وعليه فبين الاحتمال العقلائي والاحتمال الراجح البالغ حد الاطمينان درجات، فلا محالة تكون المعرفة عند مقولاً بالتشكيل بين هذه الدرجات. وبتبعه القبول والتصديق التابع للمعرفة ايضاً مقول بالتشكيك بين مراتب حسبها. ثم ان في الامور العادية ربما يكتفي العقلاء بالاحتمال ويرتبون عليه الاثر ويعد الوقوف بالاحتمال المذكور معرفة عندهم ويتبعها القبول والتصديق. واما في الامور المهمة، فلا يكتفون بصرف الاحتمال، بل انهم يسلكون طريق المعرفة اليها حسب ما يحصل لهم الرجحان بما امكن لهم، ونهاية ما يمكن ان يحصل لهم في هذا السبيل الاطمينان، واما اذا لم يتمكنوا عن تحصيل الاطمينان فهم لا يتوقفون، بل انما يعملون على حسب الرجحان القابل للحصول لهم، فالمعرفة الظنية معرفة عندهم ويتبعها القبول والتصديق. وعليه فان ما يتعارف عندنا بالحجة العقلائية بقول مطلق انما ينطبق على الاطمينان وربما يتطبق على الوثوق، واما الاحتمال الراجح غير البالغ الى حد الوثوق والاطمينان حجة عندهم في امورهم حتى المهمة مع عدم التمكن من تحصيل الاطمينان والوثوق ولكنهم يلاحظون ذلك على نحو الارجح فالارجح، فلا يكتفون بالراجح مع التمكن من الارجح، ولكن هذا الظن والاحتمال الراجح – في فرض عدم التمكن من تحصيل الاطمينان – مما يحتج به عندهم في امورهم حتى الامور المهمة. وفي تمام موارد انطباق الحجة ولو نسبياً مع عدم التمكن من الحجة بقول مطلق يترتب عليه القبول والتصديق. ويكشف عنه عملهم على طبق ما تكون حجة عندهم ويمكن الاحتجاج به في عرفهم. والامور الاعتقادية تعد من الامور المهمة عندهم. وعليه فان التصديق والقبول الذي يعرف بعملهم على وفقه تابع لما مر من المناط والمعيار في المعرفة عندهم. والمهم في السيرة العقلائية عدم الانكار والجحود بالنسبة الى كل ما يجري في مورد الاحتمال عقلائياً، اي كل ما يحتمل عقلائياً، لا يتبعه الانكار في سيرتهم.
وعليه فانه عند اظهار الرسالة من ناحية نبيّنا فيما ان النبي (صلى الله عليه وآله) رجل صادق عندهم لا يرون فيه ما ينافي صداقته وكان وجيهاً عندهم، فلا محالة ان دعوته توجب احتمال صحة قوله عقلائياً، فمن يصدقه ممن قبل دعوته تبدأ مراتب تصديقه من هذا الحد فصاعداً حسب اقتضاء فطرتهم، وحسب ما يمكن منهم تحصيل من المعرفة باي طريق، ومن المشكل جداً كون تصديقهم منبعثاً عن معرفتهم الاطمينانية الى الحد الاعلى للمعرفة عندهم ولا اقل في بدو اسلامهم. وهذا ما يمكن ان يترائى ايضاً في الروايات.
ففيما رواة الكليني عن محمد بن سالم عن ابي جعفر (عليه السلام):
ان الله عزوجل بعث محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بمكة عشر سنين، و لم يمت بمكة في تلك العشر سنين احدٌ يشهد (ان لا اله الا الله وان محمداً رسول الله)، الا ادخله الله الجنة باقراره.[1]
وقد افاد الشيخ (قدس سره) بعد نقل الروايته:
«... وهو – الاسلام والايمان – ايمان التصديق، فان الظاهر ان حقيقة الايمان التي يخرج الانسان بها عن حد الكفر الموجب للخلود في النار لم تتغير بعد انتشار الشريعة.
نعم، ظهر في الشريعة امور صارت ضرورية الثبوت من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيعتبر في الاسلام عدم انكارها، لكن هذا لا يوجب التغيير، فان المقصود انه لم يعتبر في الايمان ازيد من التوحيد والتصديق بالنبي (صلى الله عليه وآله)، وبكونه رسولاً صادقاً فيما يبلغ. وليس المراد تفاصيل ذلك، والا لم يكن من آمن بمكة من اهل الجنة او كان حقيقة الايمان بعد انتشار الشريعة غيرها في صدر الاسلام.[2]
وما رواه الكليني في رواية اسماعيل:
قال سالت ابا جعفر (عليه السلام) عن الدين الذي لا يسع العباد جهله، فقال: الدين واسع ولكن الخوارج ضيقوا على أنفسهم من جهلهم، قلت: جعلت فداك فأحدثك بديني الذي أنا عليه ؟ فقال: بلى، فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله والاقرار بما جاء من عند الله وأتولاكم وأبرء من عدوكم ومن ركب رقابكم وتأمر عليكم وظلمكم حقكم، فقال: ما جهلت شيئا ! هو والله الذي نحن عليه، قلت: فهل سلم أحد لا يعرف هذا الامر ؟ فقال: لا إلا المستضعفين، قلت من هم ؟ قال: نساؤكم وأولادكم ثم قال: أرأيت أم أيمن ؟ فإني أشهد أنها من أهل الجنة وما كانت تعرف ما أنتم عليه.[3]
قال الشيخ (قدس سره) في ذيل هذه الرواية:
فإن في قوله ( عليه السلام ) " ما جهلت شيئا " دلالة واضحة على عدم اعتبار الزائد في أصل الدين. والمستفاد من هذه الأخبار المصرحة بعدم اعتبار معرفة أزيد مما ذكر فيها في الدين - وهو الظاهر أيضا من جماعة من علمائنا الأخيار، كالشهيدين في الألفية وشرحها، والمحقق الثاني في الجعفرية، وشارحها، وغيرهم - هو: أنه يكفي في معرفة الرب التصديق بكونه موجودا واجب الوجود لذاته، والتصديق بصفاته الثبوتية الراجعة إلى صفتي العلم والقدرة، ونفي الصفات الراجعة إلى الحاجة والحدوث، وأنه لا يصدر منه القبيح فعلا أو تركا. والمراد بمعرفة هذه الأمور: ركوزها في اعتقاد المكلف، بحيث إذا سألته عن شئ مما ذكر، أجاب بما هو الحق فيه وإن لم يعرف التعبير عنه بالعبارات المتعارفة على ألسنة الخواص. ويكفي في معرفة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ): معرفة شخصه بالنسب المعروف المختص به، والتصديق بنبوته وصدقه، فلا يعتبر في ذلك الاعتقاد بعصمته، أعني كونه معصوما بالملكة من أول عمره إلى آخره[4]. وهذه الاخبار وتصريح الشيخ (قدس سره) بما يستفاد منها تشهد على ما مرّ من انه لا يجب على المكلف اكثر من وجوب التصديق والقبول وقد مر انهما من تبعات المعرفة في متعارف العقلاء وبما انها ذات مراتب ومقولة بالتشكيك.
وفي هذا المقام يكفي الظن لمن لا يتمكن من حصول الوثوق او الاطمينان، ولكن مع عدم العناد والجحود كما هو شان العقلاء عند ثبوت الاحتمال العقلائي في امر فضلاً عن ثبوت الاحتمال الراجح فيه.
ومما ذكرناه قد ظهر انه لا وجه للاكتفاء بالتقليد حسب ما يكفي به في الفروع، وذلك لان التقليد اي الاخذ بقول الغير تعبداً لا شأن في السيرة العقلائية لانه لاتعبد بينهم ولامعنى له فيهم. نعم ان سيرتهم جرت على الرجوع الى الخبرة وهذا غير التعبد، فان قول الخبرة عندهم يفيد الظن، بل الوثوق والاطمينان وهو طريق للمعرفة عندهم المترتب عليها التصديق والقبول ولاشبهة في كفايته.
وعليه فان الرجوح الى الخبرة في المسائل الاعتقادية من طرق المعرفة، ولاشبهة في كفاية التصديق المترتب عليه.
هذا ما يتعلق باساس الاعتقاديات مما يتقوم عليها الاسلام والايمان.
واما غيرها فما ثبت في الكتاب والاخبار المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله) والائمة الطاهرين يجب التدين به وتصديقه، لان الاقرار بالنبي وصدقه وكونه رسولاً يقتضي ذلك من دون ان يجب اكثر من ذلك، ويكفي ان يقول انه أُصدّق هذا، لانه جاء في الكتاب او في كلام الرسول(صلى الله عليه واله) او الامام (عليه السلام).
[1] الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص29.
[2] فرائد الاصول، ج1، ص561-562.
[3] الشيخ الكليني، الكافي، ج2، باب المستضعف، ص405، الحديث6.
[4] فرائد الاصول، ج1، ص564-565.