بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه نه
ففيه:
أن الظن بالمسألة الأصولية: إن كان منشأ للظن بالحكم الفرعي الواقعي - كالباحثة عن الموضوعات المستنبطة، والمسائل العقلية مثل وجوب المقدمة وامتناع اجتماع الأمر والنهي - فقد اعترفنا بحجية الظن فيها . وأما ما لا يتعلق بذلك وتكون باحثة عن أحوال الدليل من حيث الاعتبار في نفسه أو عند المعارضة - وهي التي منعنا عن حجية الظن فيها - فليس يتولد من الظن فيها الظن بالحكم الفرعي الواقعي، وإنما ينشأ منه الظن بالحكم الفرعي الظاهري، وهو مما لم يقتض انسداد باب العلم بالأحكام الواقعية العمل بالظن فيه، فإن انسداد باب العلم في حكم العصير العنبي إنما يقتضي العمل بالظن في ذلك الحكم المنسد، لا في حكم العصير من حيث أخبر عادل بحرمته .
بل أمثال هذه الأحكام الثابتة للموضوعات لا من حيث هي، بل من حيث قيام الأمارة الغير المفيدة للظن الفعلي عليها: إن ثبت انسداد باب العلم فيها على وجه يلزم المحذور من الرجوع فيها إلى الأصول عمل فيها بالظن، وإلا فانسداد باب العلم في الأحكام الواقعية وعدم إمكان العمل فيها بالأصول لا يقتضي العمل بالظن في هذه الأحكام، لأنها لا تغني عن الواقع المنسد فيه العلم .
هذا غاية توضيح ما قرره استاذنا الشريف قدس سره اللطيف، في منع نهوض دليل الانسداد لإثبات حجية الظن في المسائل الأصولية».[1]
وحاصل هذا التقريب بطوله:
ان مقتضى القاعدة حرمة التعبد بالظن، وخروجه عنها يتوقف على شمول دليل الانسداد ولا يتكفل دليل الانسداد لاعتبار الظن في اصول الفقه.
وذلك لان في المقام تصاوير ثلاثة:
1- تصوير جريان دليل الانسداد في خصوص المسائل الاصولية.
2- تصوير جريانه في جميع الاحكام الشرعية بلا فرق فيها بين المسائل الفقهية والمسائل الاصولية.
3- تصوير جريانه في خصوص المسائل الفقهية، وان الظن بالمسألة الاصولية يستلزم الظن بالمسألة الفقهيّة المترتبة عليها.
لا سبيل لاحد هذه التصاوير لاعتبار الظن في اصول الفقه لانها بين ما لا يصح تصويره وبين ما لا يفيد.
اما الاول:
فانه لا يصح تصوير جريان الانسداد واعتبار الظن في خصوص المسائل الاصولية، وذلك لان المسائل الاصولية اما ان يبحث فيها عن الحجية في مقام الاستدلال في الفقه نظير مسألة حجية الشهرة، نقل الاجماع، بحث الخبر الواحد، او الترجيح بين الخبرين، فانه لا انسداد فيها لباب العلم وذلك لانه بعد تصوير الانسداد في الفقه، فانه يعتبر الظن الحاصل من الامارات الظنية، وبما ان الشهرة والاجماع المنقول او خبر الواحد تعد من هذه الامارات، فلا محالة تثبت حجيته بلا حاجة الى اجراء مقدمات الانسداد في خصوصها بعنوان المسألة الاصولية.
واما يبحث فيها عن الموضوعات المستنبطة، نظير الفاظ الكتاب والسنة من جهة استنباط الاحكام منها. نظير مسائل الامر والنهي والمطلق والمقيد... وغير ذلك من مباحث الظهورات، والظن في هذه المباحث حجة لا من جهة جريان الانسداد في خصوص المسائل الاصوليّة، بل من جهة ان حصول الظن فيها يستلزم الظن بالحكم الفرعي الكلي الواقعي، وقد مر حجية هذا الظن بجريان دليل الانسداد في خصوص الفقه.
ويلحق به جميع الظنون المستلزمة للظن بالحكم الفرعي كما في مسألة وجوب المقدمة، وحرمة الضد، وامتناع الامر والنهي، وامر الامر مع علمه بانتفاء شرطه من المسائل العقلية، والملازمات، واما باقي المسائل، فانها ليست في الكثرة على حد لا يتكفل المجتهد التمسك فيها بالاصول العملية لعدم استلزامه محذوراً كالخروج من الدين، والاهمال نظير المسائل الباحثة عن شروط اخبار الاحاد والمرجحات التعبدية وامثالها.
وبالجملة انه لا حاجة لجريان مقدمات الانسداد في خصوص علم الاصول، بل لا موضوع لها فيه، لانه قد مر توقف جريان الانسداد على عدم امكان تحصيل الحكم في المسألة بلا اعتبار الظن فيها، فلا يصح جريانها في علم الاصول.
اما الثاني:
فان جريان دليل الانسداد في جميع الاحكام الشرعية الشاملة للاحكام الاصولية غير مجد وغير كاف.
وذلك لان نتيجة مقدمات الانسداد، وهي اعتبار الظن لا يثبت عمومه من حيث الموارد – في مطلق الاحكام الشرعية فرعية كانت او اصلية. لان تعميم النتيجة يتوقف على امرين:
1 - الاجماع المركب، بان يقال كل من كان يقول باعتبار الظن في هذا الباب من الفقه يقول به في هذه المسألة الاصوليّة.
2 - قبح الترجيح بلا مرجح، بان يقال بعد اعتبار الظن بمقدمات الانسداد، ان القول باعتبار الظن في مسألة دون مسألة او باب دون باب، يستلزم الترجيح بلا مرجح فيلزم جريان اعتباره في جميع المسائل فقهية كانت او اصولية.
وهذان الوجهان – المفيدان للتعميم – منتفيان في المقام.
اما الاول: اي الاجماع المركب، فلا يتم تصويره لثبوت الشهرة بين الاصحاب على عدم اعتبار الظن في اصول الفقه.
واما الثاني: - وعبر عنه الشيخ بوجود المرجح – فبما ان الاهتمام بالمسائل الاصولية اكثر من الاهتمام في مسائل الفقه لابتناء الفروع الفقهية عليها، فهي تلاحظ بعنوان المستند في الفقه والحجة فيه والواسطة في الاثبات، وكلما كانت المسألة مهمة كان الاهتمام فيها اكثر والتحفظ عن الخطاء فيها آكد – ولذا ترى قولهم بان اثبات مثل هذا الحكم بهذا الدليل مشكل، او كيف يمكن اثبات اصل بخبر مثلاً، فيلزم ان تكون الواسطة في الاثبات اقوى من المثبت به. وعليه فكيف يمكن الاعتماد على الظن في مقام الواسطة في الاثبات وان تم الاعتماد عليه في الفقه.
اما الثالث: - وهو جريان مقدمات الانسداد في المسائل الفرعية دون المسائل الاصولية ودون جميع الاحكام الشرعية الشاملة للمسائل الفقهية والمسائل الاصولية –
ففيه:
ان بناءً على اعتبار الظن بجريان الانسداد في الاحكام الفرعية، فانما يتصف بالاعتبار الظن بالحكم الشرعي الفرعي، وكذا الظن المستلزم للظن بالحكم الشرعي اي الظن الذي يورث الظن بالحكم. وقد مر اعتبار الظن الواقع في طريق استنباط الحكم كالظن الحاصل من قول اللغوي او قول الرجالي.
وبعض مسائل اصول الفقه كالمباحث المرتبطة بالموضوعات المستنبطة مثل الظهورات، او بالمسائل العقلية مثل وجوب المقدمة وامتناع اجتماع الامر والنهي.
فلا شبهة في اعتبار الظن فيها من جهة ان الظن فيها يستلزم الظن بالحكم الشرعي ومقتضاه قيام اعتبار الظن فيها بمقتضى جريان الانسداد في الاحكام الشرعية الفرعيّة.
ولكن جميع مسائل اصول الفقه ليست من هذا القبيل، فلا يتم اعتبار الظن فيها من الجهة المذكورة. اي جريان الانسداد في الاحكام الفرعية.
ومثّل (قدس سره) لذلك:
بالمسائل الباحثة عن احوال الدليل من حيث الاعتبار في نفسه او عند المعارضة وعبّر عن الظن الحاصل فيها بالظن المستلزم للظن بالحكم الفرعي الظاهري.
توضيح ذلك:
ان مباحث اعتبار خبر الثقة او خبر العادل او اعتبار الخبر الراجح في باب الترجيحات لكان الظن الحاصل منها انما يستلزم الحكم الشرعي، ولكن بعنوان الحكم الذي اخبر به العادل لا بعنوان الحكم الواقعي.
مثلاً اذا قام الخبر العادل على حرمة العصير العنبي، فان الظن الحاصل به يستلزم الظن بحرمة العصير العنبي بما اخبر به العادل لا بما هو الحكم الواقعي. وخصوصية انه كغيره من الاحكام الثابتة للموضوعات احكام ظاهرية ثابتة بما هي مؤدى الخبر لا بما هو واقع.
ومقدمات انسداد باب العلم انما تجري في مقام استكشاف الاحكام الواقعية باعتبار الظن في هذا المقام وهذه المقدمات لا توجب اعتبار الظن بالحكم الظاهري لانها لا تغني عن الواقع المنسد فيه باب العلم.
وبعبارة اخرى:
ان موضوع اعتبار الظن بمقدمات الانسداد هو الظن الفعلي بالواقع، والحكم الواقعي، واما الظن بمؤدى الخبر والحكم الظاهري فليس موضوعاً للاعتبار في مقدمات الانسداد .
والحاصل:
ان جريان مقدمات الانسداد في الفقه والأحكام الفرعية لا يتكفل لاعتبار الظن في جميع المسائل المبتلى بها في اصول الفقه.
هذا كله تقريب الوجه الاول من الاشكال حسب تقرير الشيخ (قدس سره) عن شريف العلماء واورد عليه الشيخ (قدس سره)
«. والجواب عن الوجه الاوّل.
فبأن دليل الانسداد وارد على أصالة حرمة العمل بالظن، والمختار في الاستدلال به في المقام هو الوجه الثالث، وهو إجراؤه في الأحكام الفرعية، والظن في المسائل الأصولية مستلزم للظن في المسألة الفرعية . وما ذكر: من كون اللازم منه هو الظن بالحكم الفرعي الظاهري صحيح، إلا أن ما ذكر - من أن انسداد باب العلم في الأحكام الواقعية وبقاء التكليف بها وعدم جواز الرجوع فيها إلى الأصول، لا يقتضي إلا اعتبار الظن بالحكم الفرعي الواقعي - ممنوع، بل المقدمات المذكورة كما عرفت غير مرة، إنما تقتضي اعتبار الظن بسقوط تلك الأحكام الواقعية وفراغ الذمة منها . فإذا فرضنا مثلا: أنا ظننا بحكم العصير لا واقعا، بل من حيث قام عليه ما لا يفيد الظن الفعلي بالحكم الواقعي، فهذا الظن يكفي في الظن بسقوط الحكم الواقعي للعصير . بل لو فرضنا: أنه لم يحصل ظن بحكم واقعي أصلا، وإنما حصل الظن بحجية أمور لا تفيد الظن، فإن العمل بها يظن معه سقوط الأحكام الواقعية عنا، لما تقدم: من أنه لا فرق في سقوط الواقع بين الإتيان بالواقع علما أو ظنا، وبين الإتيان ببدله كذلك، فالظن بالإتيان بالبدل كالظن بإتيان الواقع، وهذا واضح»[2]. وحاصله:
ان الشيخ (قدس سره) اختار من التصاوير الثلاثة التصوير الثالث، وظاهره انه لا يصح عنده تصوير جريان الانسداد في خصوص المسائل الاصولية كما هو التصوير الاول، ولا تصوير جريانه في جميع الاحكام الشرعية بلا فرق بين المسائل الاصولية والمسائل الفقهية. ولعل عمدة الوجه عنده (قدس سره) كفاية جريان الانسداد في الفقه لاعتبار الظن في عمدة المسائل الاصولية المتكلفة لاستنباط جل الاحكام الفرعية. ومعه لا حاجة الى جريانه في خصوص علم الاصول او في الكل، فان المكلف متمكن من الظن المعتبر القابل للاستناد في الاحكام بمجرد جريان الانسداد في الاحكام الفرعية. وبناءً على ذلك، فان مدعاه (قدس سره) ان نتيجة جريان الانسداد في الفقه اعتبار الظن في عمدة المسائل الاصولية، ويمكن الرجوع في الباقي الى الاصول العملية من غير استلزامه للاهمال او الخروج من الدين لقلته.
واما بالنسبة الى المباحث اللفظية وابواب الظهورات، فقد مر منه بان الظن الذي يستلزم الظن بالحكم الشرعي يتصف بالاعتبار كقول اللغوي، وعلي وزان هذه المباحث، المباحث العقلية والملازمات.
واما مباحث الامارات مثل البحث عن خبر الواحد وامثاله من الامارات فانما يتصف الظن الحاصل بالاعتبار من حيث استلزامه للحكم الشرعي، كما عرفت البحث فيه.
واما المحذور الذي ادعي المحقق الشريف في الظن الحاصل من الخبر من جهة ان الظن الحاصل من الخبر العادل او خبر الثقه لا يستلزم الظن الفعلي بالحكم الواقعي، بل ان غاية ما يستلزمه الظن بالحكم الظاهري وبما هو مؤدى الخبر، وما قام عليه خبر العادل او خبر الثقة.
وهذا الظن بما انه ليس ظناً بالواقع، فلا يشمله دليل الانسداد من حيث الاعتبار، لان مقدمات الانسداد على ما جرت لاستكشاف الواقع بمقتضى الظن عند عدم التمكن من العلم.
وقد دفعه الشيخ (قدس سره) بما حاصله:
ان اعتبار الظن بمقتضى دليل الانسداد انما يحكم به العقل من جهة تمكن المكلف من الامتثال الظني في ظرف عدم تمكنه من الامتثال العلمي.
وفي هذا المقام ان المكلف اذا عمل بمؤدي الخبر، وعمل بالظن الحاصل من الخبر العادل او خبر الثقة، فانه، وان لم يات بالحكم الواقعي جزماً الا انه عمل بوظيفته في مقام الامتثال، ويحصل له الظن ببراءة ذمته من التكليف بعدم تمكنه من تحصيل العلم بالبراءة، والحكم الظاهري هو الحكم الذي يلزم للمكلف الاتيان به بدلاً عن الواقع، وكيف يمكن تصوير عدم شمول دليل الانسداد لهذا الظن المورث للظن ببراءة الذمة من الواقع. فان المكلف لا تكليف له باداء الواقع ولا احراز الواقع عند فقد العلم بالواقع، وبدلية الحكم الظاهري عن الواقعي لا يختص بانسداد باب العلم، بل هي ثابتة حتى في صورة انفتاحه، فانه في فرض انفتاح باب العلم لا يحصل للمكلف العلم باتيانه الواقع اذا اتى بمودي الخبر المفيد للظن الخاص.
ثم ان الشيخ (قدس سره) اكد في بدو كلامه ان دليل الانسداد وارد على اصالة حرمة الظن، فلا يبقى موضوع للاصل بقيامه، فلا وجه للاستناد اليه في المقام بعد الالتزامه بتمامية مقدمات الانسداد.
اما الوجه الثاني للمنع:
قال الشيخ (قدس سره):
« الثاني من دليلي المنع: هو أن الشهرة المحققة والإجماع المنقول على عدم حجية الظن في مسائل أصول الفقه، وهي مسألة أصولية، فلو كان الظن فيها حجة وجب الأخذ بالشهرة ونقل الإجماع في هذه المسألة.»[3]وحاصل ما افاده:
انه لو التزامنا باعتبار الظن في اصول الفقه، فان البحث عن حجية الشهرة واعتبار الاجماع المنقول مسألة اصولية والشهرة والاجماع المنقول يفيدان الظن، والمفروض اعتبار الظن فيهما.
وحيث ان الشهرة والاجماع المنقول قاما على عدم حجية الظن في مسائل اصول الفقه، فيلزم من اثبات حجية الظن نفيها.
وأجاب عنه (قدس سره):
« وأما الجواب عن الثاني: أولا: فبمنع الشهرة والإجماع، نظرا إلى أن المسألة من المستحدثات، فدعوى الإجماع فيها مساوقة لدعوى الشهرة .
وثانيا: لو سلمنا الشهرة، لكنه لأجل بناء المشهور على الظنون الخاصة كأخبار الآحاد والإجماع المنقول، وحيث إن المتبع فيها الأدلة الخاصة، وكانت أدلتها كالإجماع والسيرة على حجية أخبار الآحاد مختصة بالمسائل الفرعية، بقيت المسائل الأصولية تحت أصالة حرمة العمل بالظن، ولم يعلم بل ولم يظن من مذهبهم الفرق بين الفروع والأصول، بناء على مقدمات الانسداد واقتضاء العقل كفاية الخروج الظني عن عهدة التكاليف الواقعية .
[1] فرائد الاصول، ج1، ص542 - 546.
[2] فرائد الاصول، ج1، ص546 - 547.
[3] فرائد الاصول، ج1، ص546.