بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه صد و يازده
وأفاد (قدس سره)ايضاً، بأنه حيث ان الاحكام العقلية لا تقبل التخصيص وأن منشأه لزوم التناقض بين حكمه وبين التخصيص لما مر من انه لو تم موضوعية الفرد للحكم فلا وجه لارتفاع حكمه عنه بالتخصيص، وأنه لا وجه لارتفاع حكمه الا بانتفاء موضوعه.
وما يرى من التخصيص في العمومات اللفظية، فهو وأن كان يستلزم التناقص بين ما ثبت بعموم اللفظ، وخروج الفرد عنه، مع تماميته من حيث الموضوعية، الا ان التناقض المذكور صوري؛ لكون العموم صورياً، وأن المراد واقعاً كان اخص من العموم اللفظي.
وأفاد صاحب الكفاية (قدس سره)في مقام دفع الاشكال:
وأنت خبير بأنه لا وقع لهذا الاشكال، بعد وضوح كون حكم العقل بذلك معلقا على عدم نصب الشارع طريقا واصلا، وعدم حكمه به فيما كان هناك منصوب ولو كان أصلا.
بداهة أن من مقدمات حكمه عدم وجود علم ولا علمي، فلا موضوع لحكمه مع أحدهما، والنهي عن ظن حاصل من سبب ليس إلا كنصب شئ، بل هو يستلزمه فيما كان في مورده أصل شرعي، فلا يكون نهيه عنه رفعا لحكمه عن موضوعه، بل به يرتفع موضوعه، وليس حال النهي عن سبب مفيد للظن إلا كالامر بما لا يفيده، وكما لا حكومة معه للعقل لا حكومة له معه، وكما لا يصح بلحاظ حكمه الاشكال فيه، لا يصح الاشكال فيه بلحاظه .
نعم لا بأس بالاشكال فيه في نفسه، كما أشكل فيه برأسه بملاحظة توهم استلزام النصب لمحاذير، تقدم الكلام في تقريرها وما هو التحقيق في جوابها في جعل الطرق.
غاية الامر تلك المحاذير - التي تكون فيما إذا أخطأ الطريق المنصوب - كانت في الطريق المنهي عنه في مورد الإصابة، ولكن من الواضح أنه لا دخل لذلك في الاشكال على دليل الانسداد بخروج القياس، ضرورة أنه بعد الفراغ عن صحة النهي عنه في الجملة، قد أشكل في عموم النهي لحال الانسداد بملاحظة حكم العقل، وقد عرفت أنه بمكان من الفساد . واستلزام إمكان المنع عنه، لاحتمال المنع عن أمارة أخرى وقد اختفى علينا، وإن كان موجبا لعدم استقلال العقل، إلا أنه إنما يكون بالإضافة إلى تلك الامارة، لو كان غيرها مما لا يحتمل فيه المنع بمقدار الكفاية، وإلا فلا مجال لاحتمال المنع فيها مع فرض استقلال العقل، ضرورة عدم استقلاله بحكم مع احتمال وجود مانعه، على ما يأتي تحقيقه في الظن المانع والممنوع. وقياس حكم العقل بكون الظن مناطا للإطاعة في هذا الحال على حكمه بكون العلم مناطا لها في حال الانفتاح، لا يكاد يخفى على أحد فساده، لوضوح أنه مع الفارق، ضرورة أن حكمه في العلم على نحو التنجز، وفيه على نحو التعليق . ثم لا يكاد ينقضي تعجبي لم خصصوا الاشكال بالنهي عن القياس، مع جريانه في الامر بطريق غير مفيد للظن، بداهة انتفاء حكمه في مورد الطريق قطعا، مع أنه لا يظن بأحد أن يستشكل بذلك، وليس إلا لاجل أن حكمه به معلق على عدم النصب، ومعه لا حكم له، كما هو كذلك مع النهي عن بعض أفراد الظن، فتدبر جيدا.»[1]
وحاصل ما افاده (قدس سره) في دفع الاشكال يشتمل على نقاط:
الاولى:
ان للعقل حكمين، الحكم التنجيزي، والحكم التعليقي، والمراد من حكمه التعليقي ما يكون معلقاً على عدم صدور نهي الشارع عن خصوص الظن الحاصل من سبب خاص، فإذا نهى الشارع عنه فلا محالة لم يبق موضوع لحكم العقل بحجية مطلق الظن، ويكون انتفاء حكمه من باب السالبة بانتفاء الموضوع، وعليه فليس المورد من باب بقاء الموضوع وارتفاع حكمه، حتى يكون تخصيصا في حكم العقل.
وبعبارة اخرى:
ان حكم العقل باعتبار الظن في مقام كيفية الطاعة والامتثال انما كان لأجل التحفظ على اغراض الشارع وتحصيل الأمن من عواقب مخالفته.
وهذا الحكم من العقل معلق على عدم نصب الشارع طريقاً خاصاً في مقام اطاعة اوامره، فلو نصب طريقاً لا يفيد الظن فلا شبهة في عدم حكم العقل بقبح الأخذ به في هذا المقام، مع انه لو لم يناله يد النصب من ناحية الشارع لحكم بقبح الأخذ به.
وكما ان هذا التعليق ثابت في عدم نصبه طريقاً خاصاً، كذلك نلتزم به بالنسبة الى عدم ردع الشارع عن العمل به فيكون حكمه باعتبار الظن معلق على عدم ردع الشارع عنه، وعليه فلا تنافي بين خروج مثل القياس عما هو موضوع للاعتبار في المقام واستقلال العقل لاعتبار الظن في حال الانسداد.
وأفاد في مقام التعليل لكون حكم العقل في الموردين تعليقياً، ان من مقدمات الحكمة انسداد باب العلم والعلمي، وفي فرض ثبوت طريق من ناحية الشارع في مقام امتثال اوامره واستيفاء اغراضه، او ثبوت ردعه عن طريق، فإنه ينفتح بالعلم بهما باب العلم والعلمي، ومعه فلا انسداد حتى يتحقق الموضوع لحكم العقل باعتبار مطلق الظن تنجيزاً.
والعمدة فيما افاده (قدس سره) تأكيده على ان النهي عن ظن مثل الظن القياسي ليس الا مثل نصب طريق في مقام امتثال اوامره ولو لم يفد الظن، فكما انه لم يحكم العقل بقبح الأخذ بالطريق المذكور – ولو كان اصلاً عملياً – كذا لا يحكم بقبح نهيه عن ظن حاصل من سبب خاص، وهذا هو معنى التعليق.
وفائدة هذا التقريب لحكم العقل ان نهي الشارع عن الطريق المذكور كالقياس ليس رفعاً لحكم العقل عن موضوعه، اي رفع الحكم مع ثبوت الموضوع وتحققه حتى كان تخصيصاً، بل ان بالنهي المذكور يرتفع موضوع حكم العقل فيكون خروج مثل القياس عن حكمه تخصصاً لا تخصيصاً حتى يلزم محذور عدم تمامية التخصيص في الاحكام العقلية.
والوجه الذي اكد عليه في مقام الدليل على ما افاده، وكأنه جواب عن اشكال مقدر هو: انه يمكن التفريق بين المقامين، اي مقام نصب الشارع طريقاً لأن يتمكن المكلف معه من الوصول الى احكامه، ولو لم يكن يفيد الظن.
ومقام نهي الشارع عن العمل بظن حاصل من طريق خاص كالقياس في المقام وذلك في المقام الاول، يمكن تصوير التعليق في حكم العقل، وذلك لأنه يقال ان حكم العقل باعتبار الظن في حال الانسداد معلق على عدم نصب الشارع طريقاً خاصاً لاطاعة اوامره في هذا الحال. ووجه التعليق هنا ان النصب المذكور انما يهدم اساس انسداد باب العلم او العلمي الذي هو من مقدمات دليل الانسداد، ويوجب انفتاح باب العلمي له لتمكنه من طريق منصوب من ناحية الشرع.
ففي هذه الصورة يمكن تصوير انتفاء حكم العقل باعتبار الظن في حال الانسداد بانتفاء موضوعه وهو الانسداد.
وأما في المقام الثاني، اي مقام نهي الشارع عن العمل بظن خاص فإنه نهي عن ظن حاصل من سبب خاص مثل القياس في ظرف الانسداد، و هذا النهي لا يوجب مثل نصب الطريق انفتاح باب العلم او العلمي حتى يرتفع موضوع حكم العقل وينتفي بانتفاء موضوعه، لبقاء موضوع الانسداد.
وحاصل ما اجاب به عن الاشكال المذكور:
ان هذا المحذور يندفع بوجهين:
1 - ان النهي عن اعتبار ظن حاصل عن سبب خاص كالقياس، ليس الا كنصب طريق خاص من ناحية الشارع لاطاعة اوامره، ولا تفاوت بينهما ووجه عدم الفرق: ان الطريق المنهي عنه من ناحية لا يصلح لأن يقع به امتثال اوامره فلا يكون مؤمناً، كما ان مع نصب الطريق، لا يكون غيره كالظن قابلاً لأن يتحقق به الامتثال والاطاعة، ولا يكون مؤمناً.
2 - ان النهي عن ظن حاصل من سبب خاص كالقياس، انما يستلزم نصب طريق لامتثال احكامه حتى لا تفوت مصلحتها.
ونصّ لفظه في المقام: والنهي عن ظن حاصل من سبب ليس الا كنصب شيءٍ بل هو يستلزمه فيما كان في مورده اصل شرعي.
وقد وقع الكلام في مراده من هذا الاستلزام.
قال المحقق الفيروز آبادي في عناية الاصول:
«قد عرفت ان ذلك انما يتم إذا كان الأصل الشرعي الذي في مورده مثبتا للتكليف لا مطلقا ولو كان نافيا فإذا اقتضى القياس عدم التكليف وكان في مورده استصحاب التكليف فالنهي عن القياس حينئذ يستلزم نصب هذا الاستصحاب المثبت واما إذا اقتضى القياس وجود التكليف وكان في مورده البراءة الشرعية المقتضية لنفي التكليف فالنهي عن القياس مما لا يستلزم نصب هذه البراءة وذلك لما عرفت من عدم جواز الرجوع إلى الأصول النافية بعد تمامية الانسداد بمقدماتها الخمس المتقدمة تفصيلها .»[2]
ويمكن ان يقال:
ان مراده (قدس سره): ان معنى النهي عن اعتبار القياس في مقام الانسداد عدم ثبوت احكامه واغراضه به، فهو في الحقيقة نصب مؤمن من ناحية الشرع بالنسبة الى الأحكام التي تثبت بالقياس، فلو ترك المكلف هذه الاحكام لم يعاقب من ناحية، وليس ذلك الا من جهة ثبوت المؤمن بنهيه، فكما ان نصب الطريق نصب مؤمن بالنسبة الى احتمال الخلاف الجاري في العمل به، كذلك ان النهي عن القياس نصب مؤمن بالنسبة الى الاحكام والاغراض التي يدل عليها الظن القياسي. ولذا عبر (قدس سره) عنه بالاستلزام لأنه يترتب على نهيه ما يترتب على النصب.
وبالجملة، ان الثابت بالقياس له حكم ما شك فيه من الاحكام، لعدم الاثر لاثباته به، فلا محالة يجري فيه الاصول الجارية في مشكوك الحكم.
وقد عبر عنه (قدس سره) بقوله: فيما كان في مورده اصل شرعي.
لا يقال:
ان البحث في المقام في فرض انسداد باب العلم، وقد ثبت بمقتضى مقدماته عدم جواز الرجوع الى الاصول النافية للحكم. ومعه فكيف يمكن فرض استلزام النهي جريان الاصول النافية للحكم.
فإنه يقال:
ان المفروض عنده (قدس سره) ان النهي عن القياس يستلزم نصب طريق خاص من ناحية الشارع في ظرف الانسداد، وحد هذا الطريق المنصوب نفي الاحكام الثابتة بالقياس، فهو وإن كان الطريق المذكور هو الاصل النافي، الا انه طريق منصوب في مورد خاص، هو الاحكام الثابتة بالقياس، وقد مر منه ان نصب طريق ولو لم يفد الظن، بل ولو كان اصلاً يوجب تبدل موضوع الانسداد بالانفتاح.
وقد اكد (قدس سره) ما افاده في متن الكفاية بما افاده في حاشية الرسائل، قال:
«... وخلاصة المقال في حل الاشكال ان يقال: ان حكم العقل بلزوم اتباع الظن في هذا الحال ليس الا علي نحو التعليق بعدم المنع منه شرعا، فلا مجال له مع المنع لعدم مناطه وملاكه.»
[1] كفاية الأصول، ص325-326.
[2] عناية الاصول، ج3، ص358.