بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه هشتاد و دو
وقوله في الجواب الثالث:
«وثالثاً: سلمنا نصب الطريق ووجوده في جملة ما بأيدينا من الطرق الظنية - من أقسام الخبر والإجماع المنقول والشهرة وظهور الإجماع والاستقراء والأولوية الظنية -، إلا أن اللازم من ذلك هو الأخذ بما هو المتيقن من هذه، فإن وفى بغالب الأحكام اقتصر عليه، وإلا فالمتيقن من الباقي - مثلا: الخبر الصحيح والإجماع المنقول متيقن بالنسبة إلى الشهرة وما بعدها من الأمارات، إذ لم يقل أحد بحجية الشهرة وما بعدها دون الخبر الصحيح والإجماع المنقول.
فلا معنى لتعيين الطريق بالظن بعد وجود القدر المتيقن ووجوب الرجوع في المشكوك إلى أصالة حرمة العمل.
نعم، لو احتيج إلى العمل بإحدى أمارتين واحتمل نصب كل منهما، صح تعيينه بالظن بعد الإغماض عما سيجئ من الجواب.»
وقوله في الجواب الرابع:
«ورابعاً: سلمنا عدم وجود القدر المتيقن، لكن اللازم من ذلك وجوب الاحتياط، لأنه مقدم على العمل بالظن، لما عرفت: من تقديم الامتثال العلمي على الظني. اللهم إلا أن يدل دليل على عدم وجوبه، وهو في المقام مفقود.
ودعوى: أن الأمر دائر بين الواجب والحرام، لأن العمل بما ليس طريقا حرام.
مدفوعة: بأن العمل بما ليس طريقا إذا لم يكن على وجه التشريع غير محرم، والعمل بكل ما يحتمل الطريقية رجاء أن يكون هذا هو الطريق لا حرمة فيه من جهة التشريع.
نعم، قد عرفت: أن حرمته مع عدم قصد التشريع إنما هي من جهة أن فيه طرحا للأصول المعتبرة من دون حجة شرعية.
وهذا أيضا غير لازم في المقام، لأن مورد العمل بالطريق المحتمل إن كان الأصول على طبقه فلا مخالفة، وإن كان مخالفا للأصول: فإن كان مخالفا للاستصحاب فلا إشكال، لعدم حجية الاستصحابات بعد العلم الإجمالي بأن بعض الأمارات الموجودة على خلافها معتبرة عند الشارع. وإن كان مخالفا للاحتياط فحينئذ يعمل بالاحتياط في المسألة الفرعية، ولا يعمل بذلك الظن.
فحاصل الأمر يرجع إلى العمل بالاحتياط في المسألة الأصولية - أعني نصب الطريق - إذا لم يعارضه الاحتياط في المسألة الفرعية، فالعمل مطلقا على الاحتياط.
اللهم إلا أن يقال: إنه يلزم الحرج من الاحتياط في موارد جريان الاحتياط في نفس المسألة، كالشك في الجزئية وفي موارد الاستصحابات المثبتة للتكليف والنافية له بعد العلم الإجمالي بوجوب العمل في بعضها على خلاف الحالة السابقة، إذ يصير حينئذ كالشبهة المحصورة، فتأمل.»[1]
وحاصل ما حققه الشيخ (قدس سره) في اجوبته الاربعة، وهي اساس ما افاده صاحب الكفاية (قدس سره) في جوابه، حيث انه (قدس سره) اشار الى الجواب الاول من الشيخ بقوله: بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصة.
وأشار الى جوابه الثاني بقوله: باقية فيما بأيدينا من الطرق الغير العلمية.
والى جوابه الثالث بقوله: وعدم وجود المتيقن بينها اصلاً.
والى جوابه الرابع بقوله: ان قضية ذلك هو الاحتياط في اطراف هذه الطرق...:
انه (قدس سره) منع نصب الطرق من ناحية الشارع في المقام من جهة انه لو كان لبان، وأفاد بأنه يكفي في رد الاستدلال، احتمال عدم نصب الطريق الخاص للاحكام، وارجاع امتثالها الى ما يحكم به العقلاء وجرى عليه ديدنهم في امتثال احكام الملوك والموالي، مع العلم بعدم نصب الطريق الخاص للاحكام المتعلقة بهم. مثل الرجوع الى العلم الحاصل من تواتر النقل عن صاحب الحكم. او باجتماع جماعة من اصحابه على عمل خاص، او الرجوع الى الظن الاطميناني الذي يسكن اليه النفس ويطلق عليه العلم العرفي.
هذا بالنسبة الى المجتهد، وأما المقلد. فإنه وإن كان له طريق خاص في امتثال الاحكام وهو التقليد عن المجتهد الا انه يحتمل ان يكون التقليد كان من اجل لزوم الرجوع في هذه الموارد الى اهل الخبرة المركوز في اذهان جميع العقلاء، ويكون بعض ما ورد من الشارع في باب التقليد تقريراً لهذا الارتكاز، لا تأسيساً.
وبالجملة، انه من المحتمل جداً احالة الشارع عباده في امتثال تكاليفه الى ما هو المتعارف بينهم بما هم عقلاء من الرجوع الى العلم او الظن الاطميناني.
وفي فرض فقدهما الارجاع الى ما هو طريقهم في مثله كالظن الغير الاطميناني.
كما انه لو فرض فقدان الظن الغير الاطميناني يقين الامتثال بالاحتمال الغير الراجح من الشك او ما دونه من الوهم.
ثم ذكر الشيخ (قدس سره) وجهاً لثبوت الطريق بقوله ان قلت:
وحاصله انه لا مجال لإنكار ثبوت الطريق في حال الانسداد اجمالاً، وهذا الطريق هو اعتبار الظن المطلق، وذلك لأن مطلق الظن طريق عقلي وقد رضي به الشارع عند عدم التمكن من العلم، فهو طريق مجعول للشارع لا بمعنى ان الشارع نصب الطريق المذكور، بل النصب منه يكون بالمعنى الاعم من الجعل والتقرير، لأنا نعلم بعدم تعرض الشارع لطريق اخر مع وقوفه على طريقية الظن عقلاً، وبناء العقلاء عليه.
وأجاب (قدس سره) عنه:
بأن مطلق الظن المعتبر عند العقل ليس طريقاً في عرض الطرق المجعولة حتى يتردد الامر بين كون الطريق هو مطلق الظن او طريق اخر مجعول.
لأن الطريق العقلي لا يقع في رتبة الطريق المجعول الشرعي، بل النسبة بينهما طولية، فإن الطريق العقلي بالنسبة الي الطريق الجعلي حسب تعبير الشيخ (قدس سره) يكون كالأصل بالنسبة الى الدليل، لأن مع وجدان الطريق الجعلي الشرعي لا يحكم العقل باعتبار الطريق العقلي، وهو اعتبار الظن المطلق في المقام، بل الموضوع لاعتبار الطريق العقلي عدم العلم بالطريق الجعلي، ومجرد عدم ثبوته كاف في حكم العقل يكون مطلق الظن طريقاً، وقد عبر (قدس سره) عن الوجه المذكور بالمغالطة.
ثم افاد الشيخ (قدس سره) بأن مع تسلّم نصب الطريق.
فإن من الممكن عدم بقاء الطرق المجعولة المفروضة لنا. وذلك لأن من المحتمل ان يكون ما حكم بطريقيته قسم من الاخبار لم يصل الينا في زماننا. مثلاً كان الطريق المنصوب الخبر المفيد للاطمينان الفعلي بالصدور، الذي كان كثير في العصر الاول لكثرة القرائن عندهم، مع العلم بعدم كثرتها في زماننا، او خبر العادل او الثقة الثابت عدالته او وثاقته بالقطع او البينة الشرعية او الشياع مع افادته الظن الفعلي بالحكم. وأفاد بامكان دعوى ندرته في زماننا، لندرة حصول الشياع على فرض كون الاتفاق العملي كاشفاً عن قول الحجة ولا نقول به، وكذا ندرة افادة الظن الفعلي باعتباره.
ثم مع تسلم نصب الطريق وبقائه الى زماننا.
فان بأيدينا جملة من الطرق الظنية نظير اقسام الخبر والاجماع المنقول والشهرة وظهور الاجماع والاستقراء والاولوية الظنية.
ولكنه لابد فيها من الأخذ بالمتيقن في الاعتبار، لأنه ليست هذه الجملة على وزان واحد في الاعتبار، فإن وفى هذا المقدار المتيقن بغالب الأحكام ومعظمها فبها والا يلزم الأخذ بالمتيقن من الباقي حتى وفى بها.
ومعه لا تصل النوبة الى اعتبار الظن المطلق.
ومع تسلم هذا فإنه يتيقن الأخذ بالاحتياط دون العمل بالظن لتقدم الامتثال العلمي على الظني ولو كان اجمالياً.
وعليه فإن في المسألة الاصولية اي نصب الطريق يرجع الأمر الى الاحتياط اذا لم يعارضه الاحتياط في المسألة الفرعية.
والكلام في الاحتياط نفياً واثباتاً يكون كما مر.
.[1]فرائد الأصول، ج1، ص444-446.