بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه پنجاه و دو
ثم إنه قد يرد الرجوع إلى أصالة البراءة - تبعا لصاحب المعالم وشيخنا البهائي في الزبدة -: بأن اعتبارها من باب الظن، والظن منتف في مقابل الخبر ونحوه من أمارات الظن.
وفيه: منع كون البراءة من باب الظن. كيف ؟ ولو كانت كذلك لم يكن دليل على اعتبارها، بل هو من باب حكم العقل القطعي بقبح التكليف من دون بيان.
وذكر المحقق القمي ( رحمه الله ) في منع حكم العقل المذكور: أن حكم العقل إما أن يريد به الحكم القطعي أو الظني.
فإن كان الأول، فدعوى كون مقتضى أصل البراءة قطعيا أول الكلام، كما لا يخفى على من لاحظ أدلة المثبتين والنافين من العقل والنقل. سلمنا كونه قطعيا في الجملة، لكن المسلم إنما هو قبل ورود الشرع، وأما بعد ورود الشرع فالعلم بأن فيه أحكاما إجمالية على سبيل اليقين يثبطنا عن الحكم بالعدم قطعا، كما لا يخفى. سلمنا ذلك، ولكن لا نسلم حصول القطع بعد ورود مثل الخبر الواحد الصحيح على خلافه. وإن أراد الحكم الظني - سواء كان بسبب كونه بذاته مفيدا للظن أو من جهة استصحاب الحالة السابقة - فهو أيضا ظن مستفاد من ظاهر الكتاب والأخبار التي لم يثبت حجيتها بالخصوص. مع أنه ممنوع بعد ورود الشرع ثم بعد ورود الخبر الصحيح إذا حصل من خبر الواحد ظن أقوى منه، انتهى كلامه رفع مقامه.
وفيه: أن حكم العقل بقبح المؤاخذة من دون البيان حكم قطعي لا اختصاص له بحال دون حال، فلا وجه لتخصيصه بما قبل ورود الشرع، ولم يقع فيه خلاف بين العقلاء، وإنما ذهب من ذهب إلى وجوب الاحتياط لزعم نصب الشارع البيان على وجوب الاحتياط من الآيات والأخبار التي ذكروها. وأما الخبر الصحيح فهو كغيره من الظنون إن قام دليل قطعي على اعتباره كان داخلا في البيان، ولا كلام في عدم جريان البراءة معه، وإلا فوجوده كعدمه غير مؤثر في الحكم العقلي.
والحاصل: أنه لا ريب لأحد - فضلا عن أنه لا خلاف- في أنه على تقدير عدم بيان التكليف بالدليل العام أو الخاص فالأصل البراءة، وحينئذ فاللازم إقامة الدليل على كون الظن المقابل بيانا.
ومما ذكرنا ظهر: صحة دعوى الإجماع على أصالة البراءة في المقام، لأنه إذا فرض عدم الدليل على اعتبار الظن المقابل صدق قطعا عدم البيان، فتجري البراءة.
وظهر فساد دفع أصل البراءة بأن المستند فيها إن كان هو الإجماع فهو مفقود في محل البحث، وإن كان هو العقل فمورده صورة عدم الدليل ولا نسلم عدم الدليل مع وجود الخبر. وهذا الكلام - خصوصا الفقرة الأخيرة منه - مما يضحك الثكلى، فإن عدم ثبوت كون الخبر دليلا يكفي في تحقق مصداق القطع بعدم الدليل الذي هو مجرى البراءة.
واعلم: أن الاعتراض على مقدمات دليل الانسداد بعدم استلزامها للعمل بالظن، لجواز الرجوع إلى البراءة، وإن كان قد أشار إليه صاحب المعالم وصاحب الزبدة وأجابا عنه بما تقدم مع رده: من أن أصالة البراءة لا يقاوم الظن الحاصل من خبر الواحد، إلا أن أول من شيد الاعتراض به وحرره لا من باب الظن، هو المحقق المدقق جمال الدين ( قدس سره ) في حاشيته، حيث قال:
يرد على الدليل المذكور: أن انسداد باب العلم بالأحكام الشرعية غالبا لا يوجب جواز العمل بالظن حتى يتجه ما ذكروه، لجواز أن لا يجوز العمل بالظن، فكل حكم حصل العلم به من ضرورة أو إجماع نحكم به، وما لم يحصل العلم به نحكم فيه بأصالة البراءة، لا لكونها مفيدة للظن، ولا للإجماع على وجوب التمسك بها، بللأن العقل يحكم بأنه لا يثبت تكليف علينا إلا بالعلم به، أو بظن يقوم على اعتباره دليل يفيد العلم، ففيما انتفى الأمران فيه يحكم العقل ببراءة الذمة عنه وعدم جواز العقاب على تركه، لا لأن الأصل المذكور يفيد ظنا بمقتضاها حتى يعارض بالظن الحاصل من أخبار الآحاد بخلافها، بل لما ذكرنا: من حكم العقل بعدم لزوم شئ علينا ما لم يحصل العلم لنا، ولا يكفي الظن به. ويؤكده: ما ورد من النهي عن اتباع الظن. وعلى هذا، ففي ما لم يحصل العلم به على أحد الوجهين وكان لنا مندوحة عنه - كغسل الجمعة - فالخطب سهل، إذ نحكم بجواز تركه بمقتضى الأصل المذكور. وأما فيما لم يكن مندوحة عنه، كالجهر بالتسمية والإخفات بها في الصلاة الإخفاتية التي قال بوجوب كل منهما قوم ولا يمكن لنا ترك التسمية، فلا محيص لنا عن الإتيان بأحدهما، فنحكم بالتخيير فيها، لثبوت وجوب أصل التسمية وعدم ثبوت وجوب الجهر أو الإخفات، فلا حرج لنا في شئ منهما، وعلى هذا فلا يتم الدليل المذكور، لأنا لا نعمل بالظن أصلا، انتهى كلامه رفع مقامه.
وقد عرفت: أن المحقق القمي ( قدس سره ) أجاب عنه بما لا يسلم عن الفساد، فالحق رده بالوجوه الثلاثة المتقدمة.
ثم إن ما ذكره: من التخلص عن العمل بالظن بالرجوع إلى البراءة، لا يجري في جميع الفقه، إذ قد يتردد الأمر بين كون المال لأحد شخصين، كما إذا شك في صحة بيع المعاطاة فتبايع بها اثنان، فإنه لا مجرى هنا للبراءة، لحرمة تصرف كل منهما على تقدير كون المبيع ملك صاحبه وكذا في الثمن، ولا معنى للتخيير أيضا، لأن كلا منهما يختار مصلحته، وتخيير الحاكم هنا لا دليل عليه. مع أن الكلام في حكم الواقعة، لا في علاج الخصومة.
اللهم إلا أن يتمسك في أمثاله بأصالة عدم ترتب الأثر، بناء على أن أصالة العدم من الأدلة الشرعية، فلو ابدل في الإيراد أصالة البراءة بأصالة العدم كان أشمل.
ويمكن أن يكون هذا الأصل - يعني أصل الفساد وعدم التملك وأمثاله - داخلا في المستثنى في قوله: " لا يثبت تكليف علينا إلا بالعلم أو بظن يقوم على اعتباره دليل يفيد العلم "، بناء على أن أصل العدم من الظنون الخاصة التي قام على اعتبارها الإجماع والسيرة، إلا أن يمنع قيامهما على اعتباره عند اشتباه الحكم الشرعي مع وجود الظن على خلافه.
واعتباره من باب الاستصحاب - مع ابتنائه على حجية الاستصحاب في الحكم الشرعي - رجوع إلى الظن العقلي أو الظن الحاصل من أخبار الآحاد الدالة على الاستصحاب.
اللهم إلا أن يدعى تواترها ولو إجمالا، بمعنى حصول العلم بصدور بعضها إجمالا، فيخرج عن حيز الآحاد، ولا يخلو عن تأمل. وكيف كان، ففي الأجوبة المتقدمة ولا أقل من الوجه الأخير غنى وكفاية إن شاء الله تعالى.