وأما ما افاده صاحب الكفاية في مقام الجواب عن الوجه: انه (قدس سره) منع الصغرى بما محصله: ان الظن بالتكليف لا يستلزم الظن بالضرر على مخالفته. اما لو كان الضرر المزبور العقوبة، فإنها انما تترتب على مخالفة التكليف الواقعي والمعصية، ولا تتحقق المعصية الا مع فرض تنجز التكليف عقلاً، وعليه فإن الظن بالتكليف بما انه لا يوجب تنجيزه فلا يوجب العقوبة على مخالفته. فإن مخالفة التكليف المظنون لا تكون معصية، فلا يستلزم العقوبة عليه.
ثم انه (قدس سره) بعد هذا البيان استدركه بقوله: الا ان يقال: وحاصله انه ربما يقال ان العقل وإن لا يستقل بتنجز التكليف بمجرد حصول الظن به وترتب العقوبة على مخالفته، الا انه لا يستقل ايضاً بعدم ترتب العقاب على مخالفته لانه يحتمل العقوبه فيها وإن كانت غير محرزة لديه، فيكون المورد من موارد دفع الضرر المشكوك بل المظنون، ودعوى استقلال العقل بلزوم دفعه خصوصاً اذا كان الضرر المذكور عقوبة اخرويّه ليست ببعيد.
والقائل له هو الشيخ (قدس سره) في الرسائل.
قال: « اللهم إلا أن يقال: إن الحكم بعدم العقاب والثواب فيما فرض من صورتي الجهل البسيط و المركب بالوجوب والحرمة، إنما هو لحكم العقل بقبح التكليف مع الشك أو القطع بالعدم، أما مع الظن بالوجوب أو التحريم فلا يستقل العقل بقبح المؤاخذة، ولا إجماع أيضا على أصالة البراءة في موضع النزاع.»
ولكنه (قدس سره) اجاب عنه: « ويرده: أنه لا يكفي المستدل منع استقلال العقل وعدم ثبوت الإجماع، بل لا بد له من إثبات أن مجرد الوجوب والتحريم الواقعيين مستلزمان للعقاب حتى يكون الظن بهما ظنا به، فإذا لم يثبت ذلك بشرع ولا عقل لم يكن العقاب مظنونا، فالصغرى غير ثابتة. ومنه يعلم فساد ما ربما يتوهم: أن قاعدة دفع الضرر يكفي للدليل على ثبوت الاستحقاق. وجه الفساد: أن هذه القاعدة موقوفة على ثبوت الصغرى وهي الظن بالعقاب. نعم، لو ادعي أن دفع الضرر المشكوك لازم توجه فيما نحن فيه الحكم بلزوم الاحتراز في صورة الظن، بناء على عدم ثبوت الدليل على نفي العقاب عند الظن، فيصير وجوده محتملا، فيجب دفعه. لكنه رجوع عن الاعتراف باستقلال العقل وقيام الإجماع على عدم المؤاخذة على الوجوب والتحريم المشكوكين.»
وصاحب الكفاية (قدس سره) لم يتعرض للجواب عن المقالة، وذلك لأن الشيخ (قدس سره) وإن اجاب عنه حسب ما اختاره (قدس سره) في نفي العقاب، من ان استحقاق العقاب على الفعل او الترك كاستحقاق الثواب عليهما ليس ملازماً للوجوب والتحريم الواقعيين، لثبوت التحريم بعضاً مع قطعنا بعدم ثبوت العقاب، كما في الحرام والواجب المجهولين، اما بالجهل البسيط او المركب، بل ان استحقاقهما انما يلازم تحقق الاطاعة والمعصية، وهذان لا يتحققان الا بعد العلم بالوجوب والحرمة او الظن المعتبر بهما. وأما الظن الذي يشك في اعتباره فهو كالشك، وورد الدليل من الشارع على عدم اعتباره. ولهذا اجاب عن الاشكال المزبور، بأن منع استقلال العقل وعدم ثبوت الاجماع بقبح المؤاخذة عند الظن بالتكليف، لا يكفي للمستدل بالوجه بأن الظن بالتكليف يلازم الظن باستحقاق العقاب، بل اللازم له اثبات ان الثواب والعقاب انما يترتبان ويستلزمان للوجوب والحرمة الواقعيتين دون المعلومين، فإذا كان العقاب في التكليف الواقعي فلا محالة يكون الظن بالتكليف ظناً بالعقاب.
والشيخ (قدس سره) يصرّح بأن قاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل بناءً على ثبوت الصغرى، بأن الظن بالعقاب هو الضرر المحتمل، وإن كان قابلاً للادعاء في مقام الظن بالتكليف، اذا لم يقم دليل على نفي العقاب عند الظن، الا انه لا يتم معه دعوى استقلال العقل وقيام الاجماع على عدم المؤاخذة على الوجوب والتكليف المشكوكين بمقتضى قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
والشيخ (قدس سره) في الحقيقة التزم بالاشكال في مقام الجواب، ولم يدفع دعوى استقلال العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل الا بمقتضى ما ورد في تأمين المكلف من العقوبة عند احتمال التكليف على ما قرره في بحث البرائة. وأما مع قطع النظر عما ورد في امان المكلف منها فإن احتمال التكليف يلازم احتمال العقوبة، وهي الضرر الاخروي الذي يكون اهم من الضرر الدنيوي، ولا يدفعه ان ما تترتب عليه العقوبة، المعصية، وهي لا تتحقق الا بالاحراز والعلم. وصاحب الكفاية (قدس سره) لم يبادر بدفع هذه المقالة، بل التزم بها لأنه لولا ما ورد في مقام امان المكلف من العقوبة المحتملة، لا وجه لدفعه بل يكون الاحتمال منجزاً فيما كان المحتمل قابلاً للاعتناء عقلا.