بسم الله الرحمن الرحیم
جلسه بیست و یک
قال الشيخ قدس سره:
«.. ومثل قوله (ع) في موثقة عمار:" كل شئٍ طاهر حتى تعلم أنه قذر " .
بناء على أنه مسوق لبيان استمرار طهارة كل شئ إلى أن يعلم حدوث قذارته ، لا ثبوتها له ظاهرا واستمرار هذا الثبوت إلى أن يعلم الرافع.
فالغاية - وهي العلم بالقذارة - على الأول ، غاية للطهارة رافعة لاستمرارها ، فكل شئ محكوم ظاهرا باستمرار طهارته إلى حصول العلم بالقذارة ، فغاية الحكم غير مذكورة ولا مقصودة .
وعلى الثاني :
غاية للحكم بثبوتها ، والغاية - وهي العلم بعدم الطهارة - رافعة للحكم ، فكل شئ يستمر الحكم بطهارته إلى كذا ، فإذا حصلت الغاية انقطع الحكم بطهارته ، لا نفسها .
والأصل في ذلك :
أن القضية المغياة - سواء كانت إخبارا عن الواقع وكانت الغاية قيدا للمحمول ، كما في قولنا : الثوب طاهر إلى أن يلاقي نجسا ، أم كانت ظاهرية مغياة بالعلم بعدم المحمول ، كما في ما نحن فيه - قد يقصد المتكلم :
مجرد ثبوت المحمول للموضوع ظاهرا أو واقعا ، من غير ملاحظة كونه مسبوقا بثبوته له.
وقد يقصد المتكلم به مجرد الاستمرار ، لا أصل الثبوت ، بحيث يكون أصل الثبوت مفروغا عنه ، والأول أعم من الثاني من حيث المورد .
إذا عرفت هذا فنقول :
إن معنى الرواية :
إما أن يكون خصوص المعنى الثاني ، وهو القصد إلى بيان الاستمرار بعد الفراغ عن ثبوت أصل الطهارة ، فيكون دليلا على الاستصحاب .
لكنه خلاف الظاهر .
وإما خصوص المعنى الأول الأعم منه ، وحينئذ لم يكن فيه دلالة على استصحاب الطهارة وإن شمل مورده .
لأن الحكم فيما علم طهارته ولم يعلم طرو القذارة له ليس من حيث سبق طهارته ، بل باعتبار مجرد كونه مشكوك الطهارة ، فالرواية تفيد قاعدة الطهارة حتى في مسبوق الطهارة ، لا استصحابها ، بل تجري في مسبوق النجاسة على أقوى الوجهين الآتيين في باب معارضة الاستصحاب للقاعدة»[1].
فإن الاستدلال بالرواية علي اعتبار الاستصحاب عند الشيخ يتوقف علي ان يكون مدلولها: ـ وهو حسب تعبيره ان القضية المغياة كان بقصد المتكلم بها مجرد الاستمرار، لا اصل الثبوت بحيث يكون اصل الثبوت مفروغاً عنه، ولكنه يراه خلاف ظاهر الرواية.
وأما اذا كان قصد المتكلم به مجرد ثبوت المحمول اي الطهارة او الحلية للموضوع ظاهراً او واقعاً، بلا ملاحظة كون مسبوقاً بثبوته له، فلا دلالة فيها علي الاستصحاب، بل انما تدل علي قاعدة الطهارة حتي في موارد سبق الطهارة اي موارد الاستصحاب.
والنكتة في كلام الشيخ قدس سره بناءً علي التقريب الاول ـ في كلامنا ـ ان الاستمرار انما قصد في الرواية من نفس المحمول اي كلمة طاهر.
وهذا بخلافه في كلام صاحب الكفاية.
فإنه قدس سره يري ان الاستمرار انما يستفاد من الغاية، فإنها تبين استمرار ما حكم علي الموضوع اي الطهارة واقعاً في الظاهر، اي ان ما حكم علي الموضوع واقعاً انما يستمر ظاهراً الي ان يعرض الرافع، فالاستمرار مستند الي الغاية، وأما المبني فإن مدلولها ثبوت الحكم ـ اي الطهارة ـ للموضوع واقعاً.
ثم ان الشيخ بعد بيان ما مر منه في تقريب دلالة موثقة عمار افاد:
«ثم لا فرق في مفاد الرواية بين الموضوع الخارجي الذي يشك في طهارته من حيث الشبهة في حكم نوعه ، وبين الموضوع الخارجي المشكوك طهارته من حيث اشتباه الموضوع الخارجي .
فعلم مما ذكرنا :
أنه لا وجه لما ذكره صاحب القوانين : من امتناع إرادة المعاني الثلاثة من الرواية - أعني : قاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية ، وفي الشبهة الموضوعية ، واستصحاب الطهارة - ، إذ لا مانع عن إرادة الجامع بين الأولين ، أعني : قاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية والموضوعية .
نعم :
إرادة القاعدة والاستصحاب معا يوجب استعمال اللفظ في معنيين ، لما عرفت أن المقصود في القاعدة مجرد إثبات الطهارة في المشكوك ، وفي الاستصحاب خصوص إبقائها في معلوم الطهارة سابقا .
والجامع بينهما غير موجود ، فيلزم ما ذكرنا . والفرق بينهما ظاهر ، نظير الفرق بين قاعدة البراءة واستصحابها ، ولا جامع بينهما .
وقد خفي ذلك على بعض المعاصرين (ومراده منه صاحب الفصول قدس سره)، فزعم جواز إرادة القاعدة والاستصحاب معا ، وأنكر ذلك على صاحب القوانين فقال : إن الرواية تدل على أصلين :
أحدهما : أن الحكم الأولي للأشياء ظاهرا هي الطهارة مع عدم العلم بالنجاسة ، وهذا لا تعلق له بمسألة الاستصحاب .
الثاني : أن هذا الحكم مستمر إلى زمن العلم بالنجاسة ، وهذا من موارد الاستصحاب وجزئياته ، انتهى .
أقول :
ليت شعري ما المشار إليه بقوله : " هذا الحكم مستمر إلى زمن العلم بالنجاسة " ؟
فإن كان :
هو الحكم المستفاد من الأصل الأولي ، فليس استمراره ظاهرا ولا واقعا مغيا بزمان العلم بالنجاسة ، بل هو مستمر إلى زمن نسخ هذا الحكم في الشريعة .
مع :
أن قوله : " حتى تعلم " إذا جعل من توابع الحكم الأول الذي هو الموضوع للحكم الثاني ، فمن أين يصير الثاني مغيا به ؟ ! إذ لا يعقل كون شئ في استعمال واحد غاية لحكم ولحكم آخر يكون الحكم الأول المغيا موضوعا له .
وإن كان :
هو الحكم الواقعي المعلوم - يعني أن الطهارة إذا ثبتت واقعا في زمان ، فهو مستمر في الظاهر إلى زمن العلم بالنجاسة – فيكون الكلام مسوقا لبيان الاستمرار الظاهري فيما علم ثبوت الطهارة له واقعا في زمان ، فأين هذا من بيان قاعدة الطهارة من حيث هي للشئ المشكوك من حيث هو مشكوك ؟ !
ومنشأ الاشتباه في هذا المقام :
ملاحظة عموم القاعدة لمورد الاستصحاب ، فيتخيل أن الرواية تدل على الاستصحاب ، وقد عرفت أن دلالة الرواية على طهارة مستصحب الطهارة غير دلالتها على اعتبار استصحاب الطهارة ، وإلا فقد أشرنا إلى أن القاعدة تشمل مستصحب النجاسة أيضا ، كما سيجئ .
ونظير ذلك ما صنعه صاحب الوافية ، حيث ذكر روايات " أصالة الحل " الواردة في مشتبه الحكم أو الموضوع في هذا المقام .
ثم على هذا ، كان ينبغي ذكر أدلة أصالة البراءة ، لأنها أيضا متصادقة مع الاستصحاب من حيث المورد .
فالتحقيق :
أن الاستصحاب - من حيث هو - مخالف للقواعد الثلاث : البراءة ، والحل ، والطهارة ، وإن تصادقت مواردها .
فثبت من جميع ما ذكرنا :
أن المتعين حمل الرواية المذكورة على أحد المعنيين ، والظاهر إرادة القاعدة - نظير قوله ( عليه السلام ) : " كل شئ لك حلال " - ، لأن حمله على الاستصحاب وحمل الكلام على إرادة خصوص الاستمرار فيما علم طهارته سابقا خلاف الظاهر ، إذ ظاهر الجملة الخبرية إثبات أصل المحمول للموضوع ، لا إثبات استمراره في مورد الفراغ عن ثبوت أصله .
نعم ، قوله : " حتى تعلم " يدل على استمرار المغيا ، لكن المغيا به الحكم بالطهارة ، يعني : هذا الحكم الظاهري مستمر له إلى كذا ، لا أن الطهارة الواقعية المفروغ عنها مستمرة ظاهرا إلى زمن العلم .
ومنها :
قوله ( عليه السلام ) : " الماء كله طاهر حتى تعلم أنه نجس " .
وهو وإن كان متحدا مع الخبر السابق من حيث الحكم والغاية إلا أن الاشتباه في الماء من غير جهة عروض النجاسة للماء غير متحقق غالبا ، فالأولى حملها على إرادة الاستصحاب .
والمعنى : أن الماء المعلوم طهارته بحسب أصل الخلقة طاهر حتى تعلم . . . ، أي : تستمر طهارته المفروضة إلى حين العلم بعروض القذارة له ، سواء كان الاشتباه وعدم العلم من جهة الاشتباه في الحكم ، كالقليل الملاقي للنجس والبئر ، أم كان من جهة الاشتباه في الأمر الخارجي ، كالشك في ملاقاته للنجاسة أو نجاسة ملاقيه))[2].
وحاصل ما افاده الشيخ قدس سره بتفصيله:
مضافاً الي ما مر منه من حمله قدس سره رواية عمار بقوله: كل شيء طاهر حتي تعلم انه قذر، وكذا قوله (ع) كل شئ لك حلال.... علي قاعدتي الطهارة والحلية لابتنائهما علي ثبوت الحكم الظاهري علي الاشياء في ظرف الشبهة وعدم العلم واستمرار هذا الحكم الظاهري الي ان يحصل العلم بخلافه.
عدم تمامية ارادة القاعدة والاستصحاب منهما كما صنعه صاحب الفصول قدس سره، وأن تسلم ارادة قاعدة الطهارة والحلية منهما في الشبهة الحكمية والموضوعية خلافاً لصاحب القوانين القائل بامتناع ارادة المعاني الثلاثة من الرواية اعني قاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية وفي الشبهة الموضوعية واستصحاب الطهارة.
ووجه عدم تمامية ارادة القاعدة والاستصحاب منهما عنده ان صاحب الفصول قدس سره اشتبه عليه ذلك من جهة ملاحظة عموم القاعدة لمورد الاستصحاب، وصرح قدس سره ان دلالة الرواية علي طهارة مستصحب الطهارة غير دلالتها علي اعتبار استصحاب الطهارة وأساس ما افاده قدس سره في هذا المقام:
هو انه لو كان مفاد الرواية ثبوت الطهارة الواقعية للأشياء واستمرارها ظاهراً الي ان يحصل العلم بالخلاف فهو بيان للاستصحاب، ولا يمكن استفادة القاعدة منه.
وإن كان مفادها ثبوت الحكم ظاهراً في ظرف الشبهة و عدم العلم، واستمرار هذا الحكم الظاهري الثابت علي الأشياء بعنوان المشتبه الي ان يثبت خلافه، فهو بيان للقاعدة فأين ذلك من بيان الاستصحاب.
ولا جامع بينهما .
[1] الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج3، ص73ـ 74.
[2] الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج3، ص73ـ 77.