بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه سوم
قال صاحب العروة ـ تكملة مسألة (83) ـ:
« و الأقوى أن حج النذر أيضا كذلك بمعنى أنه يخرج من الأصل كما سيأتي الإشارة إليه .»[1]
قال السيد الحكيم في المستمسك:
« كما يقتضيه الأخذ بمضمون النذر، فإنه تمليك للّٰه سبحانه العمل المنذور، فاذا كان مملوكاً كان ديناً، فيجب إخراجه من الأصل كسائر الديون، كما سيأتي التعرض لذلك من المصنف (ره) في المسألة الثامنة من الفصل الآتي.»[2]
وأفاد السيد الخوئي (قدس سره) ناظراً اليه:
«و استدلّ لذلك [ اخراج النذر من أصل المال] بوجوه
منها: أنه دين اللّٰه و دين اللّٰه أحق أن يقضى كما في رواية الخثعمية[3]، و قد صرح المصنف بذلك في المسألة الثالثة من صلاة الاستئجار.
و فيه:
مضافاً إلى ضعف السند أن إطلاق الدّين على بعض الواجبات الشرعية أعم من الحقيقي و المجازي لأن الاستعمال أعم منهما، و لكن الأحكام المترتبة على الدّين الحقيقي لا تشمل التكاليف الشرعية لانصرافه إلى دين الناس و حقهم.
و منها:
الإجماع على أن الواجب المالي يخرج من الأصل.
و فيه: لو سلمنا ثبوت الإجماع فهو على الواجب المالي بنفسه أي ما كان واجباً مالياً نفسياً بحتاً كالزكاة و الخمس و نحوهما لا ما كان صرف المال مقدمة له، بل ثبوت الإجماع في جميع الواجبات المالية النفسية كالكفارات غير معلوم.
و منها: أنّ النذر بنفسه يقتضي كونه ديناً، لأنّ الجعل على الذمة يوجب كونه ديناً عليه للّٰه تعالى لقوله: للّٰه عليّ كذا فالمنذور يكون ديناً للّٰه على الناذر بمقتضى جعله.
و فيه:
أنه لم يثبت كونه كالدين المتعارف الثابت في الذمّة، و قوله: للّٰه عليّ كذا لا يدلّ على كونه ديناً كسائر الديون، فإن ذلك نظير قوله: للّٰه عليّ صلاة أو صوم فإنه دال على اشتغال ذمّته بالواجب الإلٰهي، و مجرّد كون الشيء واجباً لا يقتضي كونه ديناً حقيقياً ثابتاً في الذمّة بحيث تكون ذمّته مملوكة كالدين المتعارف بالملكية الاعتبارية، بل إطلاق جملة من الروايات المفصلة بين حجّ الإسلام و غيره الدالّة على أن حجّ الإسلام يخرج من الأصل و غيره من الثلث يشمل الحجّ النذري، فإن المستفاد من تلك النصوص أن الخارج من الأصل هو حجّ الإسلام لا غير، و لو أوصى بالحجّ النذري يخرج من الثلث، و لا حاجة إلى الرواية مع أنها موجودة»[4].
وعمدة الوجه في اشكال السيد الخوئي (قدس سره) على بيان السيد الحكيم:
إنَّ وجه الاستدلال لإخراج حج النذر من الأصل في كلام السيد الحكيم أنَّ العمل المنذور مملوك لله فيكون ديناً والدين يلزم اخراجه من الأصل.
وتمام النظر فيه:
ان الدين إنما هو ما يتعلق بالذمة من الواجبات المالية كالزكاة والخمس، وعبَّر السيد الخوئي (قدس سره) عنها بالواجبات المالية النفسية البحتة، وأمَّا ما كان من الواجبات مما يكون صرف المال مقدمة له فلا يُعد من الدين حقيقة.
فإنَّ المراد من الدين حقيقة ما كان ثابتاً في الذمة بحيث تكون ذمته مملوكة كالدين المتعارف بالملكية الاعتبارية، وهو قابل للانطباق على الواجبات المالية النفسية كالزكاة والخمس.
وما أوجب توهم كون الحج النذري ديناً، اشتغال الذمة في مثله مع اشتغالها بالواجب الإلهي لا يدل على كونه ديناً كسائر الديون.
وأمَّا ما رواه في المستدرك عن تفسير الشيخ أبو الفتوح الرازي عن امرأة خثعمية إنها أتت الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت يا رسول الله إنَّ فرض الحج قد أدرك أبي وهو شيخ لا يقدر على ركون الراحلة أيجوز أنْ أحج عنه.
قال (صلى الله عليه وآله): يجوز قالت: يا رسول الله ينفعه ذلك، قال: ارأيت لو كان على أبيك دين فقضيه، أما كان يجزي؟ قالت: نعم.
قال: فدين الله أحق[5].
وهذه الرواية وإن نقلها في دعائم الاسلام عن جعفر بن محمد، وكذا رواه المفيد في المقنعة عن الفضل بن العباس الا ان نقلهما لا يشتمل على الجملة الأخيرة في نقل الشيخ ابوالفتوح الرازي وهو قوله «قالت يا رسول الله ينفعه ذلك قال: أرأيتِ لو كان على أبيك دين فقضيه أما كان يجزي؟ قالت نعم، قال: فدين الله أحق.»[6]
فهي مرسلة بجميع طرقه ولكن مدلولها حسب نقل أبي الفتوح كون الحج ديناً ودين الله أحق من ديون الناس فيستفاد منه انه كما يلزم إخراج ديون الناس من أصل المال فكذلك يلزم إخراج مؤونة الحج منه.
وأورد على الاستدلال بها السيد الخوئي في المقام، مضافاً الى ضعف السند أنَّ اطلاق الدين على بعض الواجبات الشرعية أعم من الحقيقة فلا تشمل التكاليف الشرعية كالحج لانصرافه الى دين الناس وحقهم.
هذا مع انه يمكن المناقشة في دلالتها بالنسبة الى المقام، بان الرواية انما وردت في حجة الاسلام وسراية مدلولها الى الحج النذري انما يحتاج الى تنقيح المناط والغاء الخصوصية حتى مع غمض العين عن اشكال السيد الخوئي (قدس سره).
وأمَّا ادعاء الإجماع في مثل المقام، فانه لو ثبت فانما كان معقده ان الواجب المالي يخرج من أصل المال.
وهو بعد التأمل في أنَّ الواجب المالي يكون المراد منه الواجب المالي بالاصالة عرفاً كالدين أو الواجب المالي بالأصالة شرعاً كالخمس والزكاة، فلا يشمل ما كان صرف المال مقدمة له.
فإنَّما يقع الشك في اطلاق العنوان في معقد الاجماع فيلزم الاقتصار على المتيقن، وهو الواجبات المالية بالاصالة، بل ان السيد الخوئي تأمل في ثبوت الإجماع المذكور في جميع الواجبات المالية النفسية كالكفارات، وهو تام لو فرض الشك في اطلاق دلالة العنوان على الواجبات المالية باطلاقها الشامل للكفارات.
هذا.
وعليه فلا دليل على اخراج الحج النذري من أصل المال، بل انما وجب اخراجه من الثلث لو أوصي بها الموصي.
ويؤكده ما مرَّ من النصوص الدالة على أنَّ حج الاسلام يخرج من أصل المال، وأما غيره يخرج من الثلث.
ولذا افاد السيد الخوئي (قدس سره) في حاشيته على العروة في المقام:
«وجوب قضاء الحج المنذور مبني على الاحتياط، بل هو يخرج من الثلث اذا أوصى به»
هذا تمام الكلام في ما اورده السيد الخوئي على توجيه السيد الحكيم لبيان صاحب العروة.
ولكن المشكلة أنَّ جميع أعلام محشي العروة سوى السيد الخوئي والفقيد الحاج آقا حسن القمي (قدس سرهما) وافقوا في هذه الفتوى صاحب العروة (قدس سره ).
وقد أفاد صاحب العروة (قدس سره) في المسألة الثامنة من فصل الحج الواجب بالنذر وعهد واليمين:
«( مسألة 8 ) : إذا نذر أن يحج ولم يقيده بزمان فالظاهر جواز التأخير إلى ظن الموت أو الفوت فلا يجب عليه المبادرة إلا إذا كان هناك انصراف.
فلو مات قبل الإتيان به في صورة جواز التأخير لا يكون عاصياً، والقول بعصيانه مع تمكنه في بعض تلك الأزمنة وإن جاز التأخير لا وجه له.
وإذا قيده بسنة معينة لم يجز التأخير مع فرض تمكنه في تلك السنة، فلو أخر عصى وعليه القضاء والكفارة، وإذا مات وجب قضاؤه عنه ، كما أن في صورة الإطلاق إذا مات بعد تمكنه منه قبل إتيانه وجب القضاء عنه.
والقول بعدم وجوبه بدعوى أن القضاء بفرض جديد ضعيف لما يأتي .
وهل الواجب القضاء من أصل التركة أو من الثلث ؟ قولان:
فذهب جماعة إلى القول بأنه من الأصل، لأن الحج واجب مالي وإجماعهم قائم على أن الواجبات المالية تخرج من الأصل.
وربما يورد عليه بمنع كونه واجبا ماليا ، وإنما هو أفعال مخصوصة بدنية وإن كان قد يحتاج إلى بذل المال في مقدماته ، كما أن الصلاة أيضا قد تحتاج إلى بذل المال في تحصيل الماء والساتر والمكان ونحو ذلك.
وفيه: أن الحج في الغالب محتاج إلى بذل المال بخلاف الصلاة وسائر العبادات البدنية، فإن كان هناك إجماع أو غيره على أن الواجبات المالية تخرج من الأصل يشمل الحج قطعاً.[7]
[1] العروة الوثقى (للسيد اليزدي)، ج2، ص: 469.
[2] السيد الحكيم ، مستمسك العروة الوثقى، ج10، ص: 246
[3] . المستدرك، ج 8، ص 26، أبواب وجوب الحجّ ب 18 ح 3.
[4] .السيد الخوئي، مستند العروة الوثقى، كتاب الحج، ج 1، ص298-299.
[5] مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل، ج8، ص: 27-28، أبواب وجوب الحجّ ب 18 ح 3.
[6]. مستدرك الوسائل، ج2، ص27- 28، باب 18 من أبواب وجوب الحج الحديث 3. جامع أحاديث الشيعة باب 1 من ابواب النيابة وما يتعلق بها، الحديث (849- 850 ـ851).
[7] . السيد اليزدي، العروة الوثقى، ج4، ص498.