بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه هفدهم
فما افاده صاحب الكفاية قدس سره لا يخلو عن دقة وتحقيق.
ومن هذا القبيل الوحدة الاعتبارية في الصلاة التي تتركب من اشياء مختلفة من مقولات مختلفة، فإن القرائة مثلاً من مقولة الكيف المسموع، والركوع من مقولة الوضع، فإن بين هذه الأشياء المختلفة بحسب الحقيقة لا يمكن تصوير وحدة عقلية، بل الوحدة المعتبرة فيها الوحدة العرفية، فإذا شرع في الصلاة وشك في الفراغ منها فلا مانع من جريان استصحاب الصلاتية والحكم ببقاء الوحدة الاعتبارية فيها، بلا فرق فيه بين كون الشك في المقتضي كما اذا كان الشك في بقاء الصلاة لكونها مرددة بين الثلائية والرباعية، او كان الشك في الرافع كما اذا شككنا في بقائها لاحتمال حدوث قاطع كالرعاف، ومن الواضح ان في مثل هذه الوحدة الاعتبارية التي اخذت موضوعاً للحكم بوجوب بقاء حالة الصلاة لا يضر تخلل العدم قليلاً كما افاده صاحب الكفاية، هذا تمام الكلام في القسم الثاني وهو جريان الاستصحاب في الزماني.
وأما القسم الثالث من الاستصحاب في الأمور التدريجية غير القارة وهو الافعال المقيدة بالزمان:
فإن هذه الوجودات مما يكون له الثبات في نفسه الا انه قيد بالزمان في لسان الدليل، كالامساك المقيد بالنهار.
قال صاحب الكفاية قدس سره:
«وأما الفعل المقيد بالزمان:
فتارة: يكون الشك في حكمه من جهة الشك في بقاء قيده .
وطورا مع القطع بانقطاعه وانتفائه من جهة أخرى ، كما إذا احتمل أن يكون التعبد به إنما هو بلحاظ تمام المطلوب لا أصله .
فإن كان من جهة الشك في بقاء القيد :
فلا بأس باستصحاب قيده من الزمان ، كالنهار الذي قيد به الصوم مثلا ، فيترتب عليه وجوب الامساك وعدم جواز الافطار ما لم يقطع بزواله ، كما لا بأس باستصحاب نفس المقيد ، فيقال : إن الامساك كان قبل هذا الآن في النهار ، والآن كما كان فيجب ، فتأمل .
وإن كان من الجهة الأخرى ، فلا مجال إلا لاستصحاب الحكم في خصوص ما لم يؤخذ الزمان فيه إلا ظرفا لثبوته لا قيدا مقوما لموضوعه ، وإلا فلا مجال إلا لاستصحاب عدمه فيما بعد ذاك الزمان ، فإنه غير ما علم ثبوته له ، فيكون الشك في ثبوته له - أيضا - شكا في أصل ثبوته بعد القطع بعدمه، لا في بقائه».
وحاصل ما افاده (قدس سره):
ان الفعل المقيد بالزمان تارة:
يقع الشك في حكمه من جهة الشك في بقاء الزمان، كما إذا شك في وجوب الصوم والإمساك من جهة الشك في بقاء يوم الجمعة في قولك يجب الصوم في يوم الجمعة.
وأُخرى:
يقع الشك في حكمه مع القطع بارتفاع الزمان، وهو على قسمين:
فتارة: يكون الزمان مأخوذاً في الدليل ظرفاً للحكم.
وأُخرى: يكون مأخوذاً فيه على نحو القيدية متعلق الحكم أي الفعل وحسب تعبيره (قدس سره) الموضوع للحكم.
وهذه الصورة ايضاً، أي صورة كون القيد مأخوذاً في موضوع الحكم وعلى نحو القيدية أيضاً على قسمين:
1 ـ إنَّ الزمان يؤخذ قيداً للفعل على نحو وحدة المطلوب وبعبارة أُخرى كونه قيداً لأصل المطلوب.
2 ـ أنْ يؤخذ قيداً له على نحو تعدد المطلوب بمعنى كونه قيداً لتمام المطلوب لا لأصله.
فهنا أقسام أربعة
أما القسم الاول.
وهو ما كان الشك في حكم الفعل المقيد بالزمان من جهة الشك في بقاء الزمان، كما أذا شك في وجوب الصوم يوم الجمعة لأجل الشك في نهار الجمعة.
فالتزم صاحب الكفاية (قدس سره) في هذا القسم بجريان استصحاب النهار ـ كما مرَّ في استصحاب الزمان، ويترتب عليه وجوب الصوم، والامساك والاجتناب عن المفطرات ما لم يعلم بدخول الليل، كما لا مانع من جريان استصحاب كون الإمساك في النهار بنحو مفاد كان الناقصة، كما مرَّ منه (قدس سره).
وأما القسم الثاني:
وهو ما اذا شك في الحكم مع القطع بارتفاع الزمان وفرضنا كون الزمان ظرفاً للحكم نظير ما لو قال يجب عليك اكرام العلماء يوم الجمعة، وكان شك في ان الواجب عليه اكرامهم يوم الجمعة أو يوم السبت.
فالتزم (قدس سره) في هذا القسم بجريان استصحاب الحكم وأفاد: فلا مجال الا لاستصحاب الحكم في خصوص ما لم يؤخذ الزمان فيه الا ظرفاً لثبوته....
وفي المقام انه كان على يقين من وجوب الاكرام يوم الجمعة، ثم شك فيه فيستصحب وجوبه يوم الجمعة.
اما القسم الثالث:
وهو ما إذا شك في الحكم، مع القطع بارتفاع الزمان، وكان الزمان قيداً لمتعلق الحكم، وكان الزمان أُخذ قيداً بنحو وحدة المطلوب أي كونه دخيلاً في أصل المطلوب.
فالتزم في هذا القسم باستصحاب العدم دون الوجود، أي عدم وجوب الاكرام يوم الجمعة، بقوله:... لا قيداً مقوماً لموضوعه، والا فلا مجال الا لاستصحاب العدم.
وتمام نظره في ذلك الى أنَّ الموضوع لا يكون واحداً في القضية المتيقنة والقضية المشكوكة، لأن المتيقن وجوب الاكرام يوم الجمعة والمشكوك وجوبه يوم السبت فلا يكون الشك في المقام من الشك في بقاء ما كان، بل ان الشك انما يكون في أمر جديد، وهو وجوب الاكرام يوم السبت.
اما القسم الرابع:
وهو ما اذا كان الشك في الحكم مع قطعه بارتفاع الزمان، وكان الزمان مأخوذاً في متعلق الحكم بنحو القيدية وتعدد المطلوب بمعنى كونه دخيلاً في تمام المطلوب لا في أصله.
ففي هذه الصورة التزم صاحب الكفاية قدس سره بجريان استصحاب الحكم بمثل ما التزم به في القسم الثاني بدعوى عدم تعدد الموضوع في القضية المتيقنة والقضية المشكوكة عرفاً.
كما انه افاد بان استصحاب الحكم في المقام انما يجري لانه من قبيل ما اذا شك في بقاء المرتبة الضعيفة بعد القطع بارتفاع المرتبة الشديدة فيما اذا رأي العرف الحادث المشكوك على تقدير حدوثه امراً واحداً مع المتيقن السابق كما في السواد الضعيف والشديد، لا مبائناً كما في الاستحباب والوجوب حسب ما اختاره في التنبيه السابق.
قال قدس سره: « نعم، لا يبعد أن يكون بحسبه - أيضا - متحدا فيما إذا كان الشك في بقاء حكمه، من جهة الشك في أنه بنحو التعدد المطلوبي، وأن حكمه بتلك المرتبة التي كان مع ذاك الوقت وإن لم يكن باقيا بعده قطعا، إلا أنه يحتمل بقاؤه بما دون تلك المرتبة من مراتبه فيستصحب، فتأمل جيداً.»[1]
ثم انه (قدس سره) أورد اشكالاً في جريان الاستصحاب في القسم الثاني، وهو ما اذا كان الزمان مأخوذاً على نحو الظرفية.
وحاصله:
ان الزمان وان أُخذ في لسان الدليل ظرفاً للحكم الا انه حيث كان له دخل في مناطه فلا محالة يكون من قيود الموضوع، وفي فرض تخلف الموضوع عنه فلا وجه لجريان الاستصحاب في الحكم.
واجاب عنه (قدس سره):
ان الزمان وان كان من قيود الموضوع في فرض الظرفية الا انه ليس من القيود المفوتة له عند العرف بحيث ان مع تخلف الموضوع عنه وقع الاخلال في صدق بقائه، بل إنَّ الزمان في هذه الموارد يكون من الحالات المتبادلة للموضوع عرفاً، والمعيار في صدق البقاء في الموضوع البقاء عرفاً، وتبدل الحالات فيه لم يلزم خلل في بقائه.
قال (قدس سره):
« نعم، لو كانت العبرة في تعيين الموضوع بالدقة ونظر العقل، وأما إذا كانت العبرة بنظر العرف فلا شبهة في أن الفعل بهذا النظر موضوع واحد في الزمانين، قطع بثبوت الحكم له في الزمان الأول، وشك في بقاء هذا الحكم له وارتفاعه في الزمان الثاني، فلا يكون مجال إلا لاستصحاب ثبوته.»[2].
وأورد على ما أفاده (قدس سره) ثانياً:
ان بناءً على ذلك من أنَّ المناط في بقاء الموضوع العرف فانه يجري في المقام الاستصحابان، استصحاب الثبوت، واستصحاب عدم الثبوت، فان بناءً على وحدة الموضوع في القضية المتيقنة والقضية المشكوكة عند العرف يجري الاستصحاب في ثبوت الحكم.
وبناءً على تعدد الموضوع في القضيتين كما هو مقتضى الدقة ونظر العقل يجري استصحاب عدم ثبوته. فيتعارض الاستصحابان. ولا وجه لجريان أحدهما. هذا ما افاده المحقق النراقي وسيأتي ما فيه زيادة في ذلك وأجاب عنه (قدس سره):
انه ليس مفاد دليل الاستصحاب اعتبار كلا النظرين، النظر العرفي، والنظر الدقي العقلي، بل ان الدليل انما يقتضي اعتبار نظر العرف وان المناط صدق البقاء في الموضوع عند العرف دون العقل.
وفي المقام ان مقتضي نظر العرف وحدة الموضوع في القضيتين، وصدق البقاء في الموضوع، فيكون المقام مجرى استصحاب ثبوت الحكم، ولا وجه لجريان استصحاب عدمه ليتعارضان.
قال (قدس سره):
إنما يكون ذلك لو كان في الدليل ما بمفهومه يعم النظرين، وإلا فلا يكاد يصح إلا إذا سبق بأحدهما، لعدم إمكان الجمع بينهما لكمال المنافاة بينهما، ولا يكون في أخبار الباب ما بمفهومه يعمهما، فلا يكون هناك إلا استصحاب واحد، وهو استصحاب الثبوت فيما إذا أخذ الزمان ظرفا، واستصحاب العدم فيما إذا أخذ قيدا، لما عرفت من أن العبرة في هذا الباب بالنظر العرفي، ولا شبهة في أن الفعل فيما بعد ذاك الوقت مع ما قبله متحد في الأول ومتعدد في الثاني بحسبه، ضرورة أن الفعل المقيد بزمان خاص غير الفعل في زمان آخر، ولو بالنظر المسامحي العرفي.
نعم، لا يبعد أن يكون بحسبه - أيضا - متحدا فيما إذا كان الشك في بقاء حكمه، من جهة الشك في أنه بنحو التعدد المطلوبي، وأن حكمه بتلك المرتبة التي كان مع ذاك الوقت وإن لم يكن باقيا بعده قطعا، إلا أنه يحتمل بقاؤه بما دون تلك المرتبة من مراتبه فيستصحب، فتأمل جيداً»[3].
[1] الاخوند الخراساني، كفاية الاصول، ص410.
[2] الاخوند الخراساني، كفاية الاصول، ص409.
[3]. الاخوند الخراساني، كفاية الاصول، ص410.