بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه هجدهم
ففي هذه الصورة التزم صاحب الكفاية قدس سره بجريان استصحاب الحكم بمثل ما التزم به في القسم الثاني بدعوى عدم تعدد الموضوع في القضية المتيقنة والقضية المشكوكة عرفاً.
كما انه افاد بان استصحاب الحكم في المقام انما يجري لانه من قبيل ما اذا شك في بقاء المرتبة الضعيفة بعد القطع بارتفاع المرتبة الشديدة فيما اذا رأي العرف الحادث المشكوك على تقدير حدوثه امراً واحداً مع المتيقن السابق كما في السواد الضعيف والشديد، لا مبائناً كما في الاستحباب والوجوب حسب ما اختاره في التنبيه السابق.
قال قدس سره: « نعم، لا يبعد أن يكون بحسبه - أيضا - متحدا فيما إذا كان الشك في بقاء حكمه، من جهة الشك في أنه بنحو التعدد المطلوبي، وأن حكمه بتلك المرتبة التي كان مع ذاك الوقت وإن لم يكن باقيا بعده قطعا، إلا أنه يحتمل بقاؤه بما دون تلك المرتبة من مراتبه فيستصحب، فتأمل جيداً.»[1]
ثم انه (قدس سره) أورد اشكالاً في جريان الاستصحاب في القسم الثاني، وهو ما اذا كان الزمان مأخوذاً على نحو الظرفية.
وحاصله:
ان الزمان وان أُخذ في لسان الدليل ظرفاً للحكم الا انه حيث كان له دخل في مناطه فلا محالة يكون من قيود الموضوع، وفي فرض تخلف الموضوع عنه فلا وجه لجريان الاستصحاب في الحكم.
واجاب عنه (قدس سره):
ان الزمان وان كان من قيود الموضوع في فرض الظرفية الا انه ليس من القيود المفوتة له عند العرف بحيث ان مع تخلف الموضوع عنه وقع الاخلال في صدق بقائه، بل إنَّ الزمان في هذه الموارد يكون من الحالات المتبادلة للموضوع عرفاً، والمعيار في صدق البقاء في الموضوع البقاء عرفاً، وتبدل الحالات فيه لم يلزم خلل في بقائه.
قال (قدس سره):
« نعم، لو كانت العبرة في تعيين الموضوع بالدقة ونظر العقل، وأما إذا كانت العبرة بنظر العرف فلا شبهة في أن الفعل بهذا النظر موضوع واحد في الزمانين، قطع بثبوت الحكم له في الزمان الأول، وشك في بقاء هذا الحكم له وارتفاعه في الزمان الثاني، فلا يكون مجال إلا لاستصحاب ثبوته.»[2].
وأورد على ما أفاده (قدس سره) ثانياً:
ان بناءً على ذلك من أنَّ المناط في بقاء الموضوع العرف فانه يجري في المقام الاستصحابان، استصحاب الثبوت، واستصحاب عدم الثبوت، فان بناءً على وحدة الموضوع في القضية المتيقنة والقضية المشكوكة عند العرف يجري الاستصحاب في ثبوت الحكم.
وبناءً على تعدد الموضوع في القضيتين كما هو مقتضى الدقة ونظر العقل يجري استصحاب عدم ثبوته. فيتعارض الاستصحابان. ولا وجه لجريان أحدهما. هذا ما افاده المحقق النراقي وسيأتي ما فيه زيادة في ذلك وأجاب عنه (قدس سره):
انه ليس مفاد دليل الاستصحاب اعتبار كلا النظرين، النظر العرفي، والنظر الدقي العقلي، بل ان الدليل انما يقتضي اعتبار نظر العرف وان المناط صدق البقاء في الموضوع عند العرف دون العقل.
وفي المقام ان مقتضي نظر العرف وحدة الموضوع في القضيتين، وصدق البقاء في الموضوع، فيكون المقام مجرى استصحاب ثبوت الحكم، ولا وجه لجريان استصحاب عدمه ليتعارضان.
قال (قدس سره):
إنما يكون ذلك لو كان في الدليل ما بمفهومه يعم النظرين، وإلا فلا يكاد يصح إلا إذا سبق بأحدهما، لعدم إمكان الجمع بينهما لكمال المنافاة بينهما، ولا يكون في أخبار الباب ما بمفهومه يعمهما، فلا يكون هناك إلا استصحاب واحد، وهو استصحاب الثبوت فيما إذا أخذ الزمان ظرفا، واستصحاب العدم فيما إذا أخذ قيدا، لما عرفت من أن العبرة في هذا الباب بالنظر العرفي، ولا شبهة في أن الفعل فيما بعد ذاك الوقت مع ما قبله متحد في الأول ومتعدد في الثاني بحسبه، ضرورة أن الفعل المقيد بزمان خاص غير الفعل في زمان آخر، ولو بالنظر المسامحي العرفي.
نعم، لا يبعد أن يكون بحسبه - أيضا - متحدا فيما إذا كان الشك في بقاء حكمه، من جهة الشك في أنه بنحو التعدد المطلوبي، وأن حكمه بتلك المرتبة التي كان مع ذاك الوقت وإن لم يكن باقيا بعده قطعا، إلا أنه يحتمل بقاؤه بما دون تلك المرتبة من مراتبه فيستصحب، فتأمل جيداً»[3].
ثم ان صاحب الكفاية (قدس سره) تعرض في نهاية كلامه بعنوان ازاحة وهم لكلام عن المحقق النراقي (قدس سره)
وتفصيله:
انه افاد الشيخ (قدس سره) في المقام:
«وأما القسم الثالث - وهو ما كان مقيدا بالزمان - فينبغي القطع بعدم جريان الاستصحاب فيه. ووجهه: أن الشئ المقيد بزمان خاص لا يعقل فيه البقاء، لأن البقاء: وجود الموجود الأول في الآن الثاني، وقد تقدم الاستشكال في جريان الاستصحاب في الأحكام التكليفية، لكون متعلقاتها هي الأفعال المتشخصة بالمشخصات التي لها دخل وجودا وعدما في تعلق الحكم، ومن جملتها الزمان »[4]
هذا ما التزم الشيخ في القسم الثالث اي الافعال المقيدة بالزمان وقد عرفت تفصيل صاحب الكفاية فيه من انقسام المورد باقسام اربعة، وجريان الاستصحاب في بعضها.
ثم ورد الشيخ في تحقيق ما أفاده الفاضل النراقي في مناهج الاحكام في المقام وافاد:
«ومما ذكرنا يظهر فساد ما وقع لبعض المعاصرين: من تخيل جريان استصحاب عدم الأمر الوجودي المتيقن سابقا، ومعارضته مع استصحاب وجوده، بزعم أن المتيقن وجود ذلك الأمر في القطعة الأولى من الزمان، والأصل بقاؤه - عند الشك - على العدم الأزلي الذي لم يعلم انقلابه إلى الوجود إلا في القطعة السابقة من الزمان. قال في تقريب ما ذكره من تعارض الاستصحابين: إنه إذا علم أن الشارع أمر بالجلوس يوم الجمعة، وعلم أنه واجب إلى الزوال، ولم يعلم وجوبه فيما بعده، فنقول: كان عدم التكليف بالجلوس قبل يوم الجمعة وفيه إلى الزوال، وبعده معلوما قبل ورود أمر الشارع، وعلم بقاء ذلك العدم قبل يوم الجمعة، وعلم ارتفاعه والتكليف بالجلوس فيه قبل الزوال، وصار بعده موضع الشك، فهنا شك ويقينان، وليس إبقاء حكم أحد اليقينين أولى من إبقاء حكم الآخر.
فإن قلت: يحكم ببقاء اليقين المتصل بالشك، وهو اليقين بالجلوس. قلنا: إن الشك في تكليف ما بعد الزوال حاصل قبل مجئ يوم الجمعة وقت ملاحظة أمر الشارع، فشك في يوم الخميس - مثلا، حال ورود الأمر - في أن الجلوس غدا هل هو المكلف به بعد الزوال أيضا أم لا؟ واليقين المتصل به هو عدم التكليف، فيستصحب ويستمر ذلك إلى وقت الزوال، انتهى.
ثم أجرى ما ذكره - من تعارض استصحابي الوجود والعدم - في مثل: وجوب الصوم إذا عرض مرض يشك في بقاء وجوب الصوم معه، وفي الطهارة إذا حصل الشك فيها لأجل المذي، وفي طهارة الثوب النجس إذا غسل مرة.
فحكم في الأول بتعارض استصحاب وجوب الصوم قبل عروض الحمى واستصحاب عدمه الأصلي قبل وجوب الصوم، وفي الثاني بتعارض استصحاب الطهارة قبل المذي واستصحاب عدم جعل الشارع الوضوء سببا للطهارة بعد المذي، وفي الثالث بتعارض استصحاب النجاسة قبل الغسل واستصحاب عدم كون ملاقاة البول سببا للنجاسة بعد الغسل مرة، فيتساقط الاستصحابان في هذه الصور، إلا أن يرجع إلى استصحاب آخر حاكم على استصحاب العدم، وهو عدم الرافع وعدم جعل الشارع مشكوك الرافعية رافعا. قال: ولو لم يعلم أن الطهارة مما لا يرتفع إلا برافع، لم نقل فيه باستصحاب الوجود. ثم قال: هذا في الأمور الشرعية، وأما الأمور الخارجية - كاليوم والليل والحياة والرطوبة والجفاف ونحوها مما لا دخل لجعل الشارع في وجودها - فاستصحاب الوجود فيها حجة بلا معارض، لعدم تحقق استصحاب حال عقل معارض باستصحاب وجودها، انتهى.
فحكم في الأول بتعارض استصحاب وجوب الصوم قبل عروض الحمى واستصحاب عدمه الأصلي قبل وجوب الصوم، وفي الثاني بتعارض استصحاب الطهارة قبل المذي واستصحاب عدم جعل الشارع الوضوء سببا للطهارة بعد المذي، وفي الثالث بتعارض استصحاب النجاسة قبل الغسل واستصحاب عدم كون ملاقاة البول سببا للنجاسة بعد الغسل مرة، فيتساقط الاستصحابان في هذه الصور، إلا أن يرجع إلى استصحاب آخر حاكم على استصحاب العدم، وهو عدم الرافع وعدم جعل الشارع مشكوك الرافعية رافعا. قال: ولو لم يعلم أن الطهارة مما لا يرتفع إلا برافع، لم نقل فيه باستصحاب الوجود. ثم قال: هذا في الأمور الشرعية، وأما الأمور الخارجية - كاليوم والليل والحياة والرطوبة والجفاف ونحوها مما لا دخل لجعل الشارع في وجودها - فاستصحاب الوجود فيها حجة بلا معارض، لعدم تحقق استصحاب حال عقل معارض باستصحاب وجودها، انتهى»[5].
هذا تقريب ما افاده الفاضل النراقي (قدس سره) حسب ما نقله الشيخ (قدس سره) في الرسائل.
[1] الاخوند الخراساني، كفاية الاصول، ص410.
[2] الاخوند الخراساني، كفاية الاصول، ص409.
[3]. الاخوند الخراساني، كفاية الاصول، ص410.
[4]. الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج3، ص208.
[5]. الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ج3، ص209-210.