بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه بیست و ششم
فأفاد السيد الاستاذ قدس سره:
«الجهة الثانية: في امكان تعلق التعبد بعدم الجعل.
والتحقيق:
ان الجعل وعدمه ليس مما يمكن تعلق التعبد به والاعتبار.
فيقع الكلام في مقامين:
المقام الأول:
في عدم صحة التعبد بالجعل. فنقول:
ان التعبد والاعتبار انما يطرأ على الأمور الاعتبارية التي يكون وجودها بالجعل والاعتبار ولا يتعلق بالأمور التكوينية الخارجية، فإنها لا تقبل الجعل. ومن الواضح ان الجعل والاعتبار الصادر من المولى انما هو فعل تكويني للمولى ومن أفعاله الاختيارية النفسية التي لها وجود واقعي وليس من الأمور الاعتبارية.
نعم: ما يتعلق به الاعتبار من الأحكام الشرعية يكون اعتباريا، وإذا كان الاعتبار كذلك امتنع أن يكون موردا للتعبد والاعتبار.
وعليه فإذا فرض ان مفاد دليل الاستصحاب هو التعبد بوجود المتيقن بقاء، لم يشمل الجعل، ولا معنى لجريان الاستصحاب فيه.
وبالجملة: استصحاب الجعل بهذا المعنى مما لا محصل له.
وأما استصحاب بقاء الجعل في مورد الشك في النسخ، فهو اما ان يرجع إلى التمسك باطلاق الدليل الدال على الحكم بالنسبة إلى الزمان الممتد، وتكون تسميته بالاستصحاب مسامحة. واما ان يرجع إلى استصحاب المجعول التعليقي لا الفعلي، الذي سيأتي البحث عنه في محله.
نعم:
بناء على ما قربنا به شمول دليل الاستصحاب للشبهة الموضوعية - من: ان الدليل لا يتكفل التعبد بالمتيقن ابتداء وانما يتكفل الالزام بمعاملة المتيقن معاملة الباقي الثابت، ويكون ذلك إرشادا إلى ثبوت التعبد في كل مورد بحسبه - أمكن دعوى شمول الدليل للجعل، ويكون لازمه ثبوت التعبد بالمجعول، لا التعبد بالجعل، فتكون نسبة المجعول إلى الجعل نسبة الحكم إلى الموضوع المستصحب، فكما أن مقتضى شمول عموم: " لا تنقض " للموضوع المتيقن التعبد بحكمه - كما عرفت -، لأنه هو القابل للتعبد دون الموضوع، كذلك مقتضى شموله للجعل المتيقن هو التعبد بالمجعول، فإنه لازم للزوم معاملة الجعل معاملة البقاء بعد عدم امكان التعبد بالجعل نفسه.
المقام الثاني:
في عدم صحة التعبد بعدم الجعل.
فنقول: بناء على ما عرفت من عدم قابلية الجعل للتعبد والاعتبار لكونه فعلا تكوينيا للمولى، وان دليل الاستصحاب تكفل التعبد رأسا بالمتيقن السابق. يكون امتناع التعبد بعدمه من الواضحات، إذ ما لا يقبل الوضع الشرعي لا يقبل الرفع.
وأما بناء على تقريب شمول الدليل للجعل على المسلك الذي سلكناه في تعميم الاستصحاب للشبهة الموضوعية، فالدليل أيضا لا يشمل عدم الجعل.
وذلك:
لان غاية ما يمكن ان يقال في شمول الدليل له: ان المدلول المطابقي لعموم: " لا تنقض " هو حرمه النقض العملي ولزوم معاملة المتيقن السابق معاملة الباقي، وهذا لا مانع من شموله لعدم الجعل، ويكون ارشادا إلى ثبوت التعبد في مورده بما يناسبه، ولا يمكن أن يكون المتعبد به هو عدم الجعل، لما عرفت أنه غير قابل للتعبد، فلا بد أن يكون التعبد متعلقا بعدم المجعول، فاستصحاب عدم الجعل يفيد التعبد بعدم المجعول - يعني: عدم التكليف -.
ولكن التحقيق ان التعبد بعدم التكليف غير صحيح، وهذا مطلب برأسه يبحث عنه مع قطع النظر عن استصحاب عدم الجعل، بل يسري إلى استصحاب عدم المجعول أيضا الذي يذكر في باب البراءة، كما تقدم بيانه والمناقشة فيه، فيقع الكلام في أن عدم التكليف هل يمكن التعبد به وتعلق الجعل به أو لا ؟.
وبتحقيق هذه الجهة يظهر الحال فيما نحن فيه:
نقول:
ان ظاهر الشيخ ( رحمه الله ) في مبحث البراءة عدم صحة تعلق التعبد بعدم التكليف لأنه غير اختياري )[1].
ورد ـ والراد هو السيد الخوئي في مصباح الأصول ج3 ص258ـ: بأنه بعد أن كان التكليف بيد الشارع كان عدمه كذلك لأن نسبة القدرة إلى طرفي الوجود والعدم على حد سواء. وعليه فعدم التكليف بيد الشارع، ولا يعتبر في المستصحب إلا أن يكون أمرا بيد الشارع.
ولكن التحقيق: ان ما يمنع من التعبد بعدم التكليف أمر وراء ذلك، وما ذكرناه من الاشكال فيه وجوابه لا يرتبطان بحقيقة المانع.
بيان ذلك:
ان اعتبار عدم التكليف والتعبد تارة يكون واقعيا. وأخرى يكون ظاهريا.
فإن كان واقعيا، بان اعتبر الشارع عدم التكليف في الواقع، وجعل عدمه واقعا. فلا يخلو الحال
اما أن يكون التكليف ثابتا في الواقع.
أو لا يكون ثابتا في الواقع.
فعلى الثاني: يلغو جعل العدم، إذ مجرد جعل التكليف في الواقع يكفي في تحقق عدم التكليف وترتب الأثر عليه، بلا حاجة إلى اعتبار العدم فإنه مؤونة زائدة.
وعلى الأول:
يكون من الجمع بين الضدين نظير ما يقال في جعل الوجوب والحرمة واقعا لموضوع واحد في آن واحد، فان جعل عدم التكليف وجعل التكليف يكونا متضادين بلحاظ الآثار المترتبة عليهما وبلحاظ المبدأ
لكل منهما.
وإن كان ظاهريا..
فتارة: يراد به جعل العدم ظاهرا.
فهو مضافا إلى عدم ترتب الأثر عليه من التعذير والتأمين عن العقاب، إذ المدار في ذلك على عدم التكليف واقعا، فإنه لا يحتاج إليه فإنه يكفي عنه مجرد عدم جعل التكليف في الظاهر.
وأخرى:
يراد به جعل عدم التكليف الواقعي في مرحلة الظاهر – يعني يجعل العدم الظاهري للتكليف الواقعي، كسائر الأحكام الظاهرية المجعولة بلسان الواقع -، وهو غير صحيح أيضا.
لأن التكليف الواقعي إن لم يكن له ثبوت كفى عدمه في ترتب الآثار بلا حاجة إلى جعل عدمه في مرحلة الظاهر.
وإن كان له ثبوت فاما أن لا يترتب عليه اثر عقلي وجودي في مقام الشك، بحيث يحكم العقل بالمعذورية والأمان من العقاب، فلا أثر لجعل العدم، إذ غاية ما يراد به هو اثبات المعذورية، والمفروض انها ثابتة عقلا مع قطع النظر عن جعل العدم.
وأما ان يترتب عليه اثر وجودي عقلي بحيث يحكم العقل بمنجزيته ولزوم الاتيان بمتعلقه في ظرف الشك، امتنع جعل العدم لمنافاته لحكم العقل بلزوم الاحتياط - نظير موارد العلم الاجمالي -.
نعم:
لو كان الحكم العقلي بالاحتياط تعليقيا لا تنجيزيا بحيث يرتفع باعتبار الشارع عدم التكليف، كان جعل العدم ذا اثر عملي.
لكن الامر ليس كذلك، فان حكم العقل بالاحتياط في موارده يكون تنجيزيا لا تعليقيا، فيتحقق التنافي بين جعل التكليف الواقعي وجعل عدمه ظاهرا من حيث الأثر العملي العقلي.
وبهذا البيان تعرف:
ان ما أجيب به عن اشكال الشيخ من اختيارية العدم وكونه تحت القدرة لا يحل المشكلة في جعل العدم - وان فرض انه بيد الشارع -، وهي اما اللغوية أو لزوم الجمع بين الضدين.
وكيف كان:
فقد ظهر انه لا معنى محصل للتعبد بعدم الجعل وشمول دليل الاستصحاب له.
وبذلك يتحقق ايراد ثان على الفاضل النراقي ومن تبعه في مدعاه. فتدبر )[2].
[1] الشيخ الانصاري، فرائد الاصول، ص197.
[2] الشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم، منتقى الأصول تقرير البحث السيد محمد الروحاني، ج6، ص80 ـ 84.