بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه سی و سوم
قال السيد الخوئي قدس سره:
«ثم انه لا يخفي ان ما ذكرناه من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية - مختص بالأحكام الالزامية من الوجوب والحرمة.
وأما غير الإلزامي فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه، ولا يعارضه استصحاب عدم جعل الإباحة.
لما ذكرنا سابقا من أن الإباحة لا تحتاج إلى الجعل، فان الأشياء كلها على الإباحة، ما لم يجعل الوجوب والحرمة.
لقوله ( ع): ( اسكتوا عما سكت الله عنه).
وقوله ( ع): ( كلما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم).
وقوله ( ع): ( إنما هلك الناس لكثرة سؤالهم).
فالمستفاد من هذه الروايات أن الأشياء على الإباحة ما لم يرد أمر أو نهي من قبل الشارع، فان الشريعة شرعت للبعث إلى شئ والنهي عن الاخر لا لبيان المباحات، فلا مجال لاستصحاب عدم جعل الإباحة، لكون الإباحة متيقنة.
فالشك في بقائها، فيجري استصحاب بقاء الإباحة بلا معارض، بل يكون استصحاب عدم جعل الحرمة موافقا له.
وظهر بما ذكرنا:
أنه لا مانع من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية الوضعية كالطهارة من الخبث والحدث.
كما إذا شككنا في انفعال الماء العالي بملاقاة النجاسة السافلة، فنجري استصحاب الطهارة ولا يعارضه استصحاب عدم جعل الطهارة، لان الطهارة نظير الإباحة لا تحتاج إلى الجعل.
بل الأشياء كلها على الطهارة ما لم تعتبر النجاسة فيها من قبل الشارع، بل الطهارة بحقيقتها العرفية كون الشئ باقيا بطبيعته الأولية، والنجاسة والقذارة شئ زائد.
بل استصحاب عدم جعل النجاسة معاضد لاستصحاب بقاء الطهارة. وكذا لا مانع من جريان استصحاب الطهارة من الحدث.
كما إذا شككنا في بقائها بعد خروج الذي ولا يعارضه استصحاب عدم جعل الطهارة، لان النقض هو المحتاج إلى الجعل. وأما الطهارة المجعولة فهي الوضوء - أي الغسلتان والمسحتان - وقد أتينا بها، فهي باقية بحالها ما لم يصدر منا ما جعله الشارع ناقضا لها، بل استصحاب عدم جعل الذي ناقضا موافق لاستصحاب بقاء الطهارة.
وبعبارة أخرى:
إنما الشك في أن الصلاة مشروطة بخصوص الطهارة الثانية - أي الحاصلة بعد خروج الذي - أو مشروطة بالأعم منها ومن الطهارة الأولى - أي الحاصلة قبل خروج الذي - والأصل عدم اشتراطها بخصوص الطهارة الثانية.
نعم: إذا شككنا في بقاء النجاسة المتيقنة كمسألة تتميم الماء القليل النجس كرا، لا مجال لجريان استصحاب بقاء النجاسة، للمعارضة باستصحاب عدم جعل النجاسة بعد التتميم) [1].
وأفاد سيدنا الاستاذ قدس سره:
«وتحقيق الكلام في المقام:
انه اما ان يلتزم بأن الاباحة ليست من الاحكام المجعولة شرعا، بل هي منتزعة عن عدم طلب الفعل والترك.
وذلك إذ لا أثر عقليا لجعل ما يسمى باطلاق العنان وتعلق الاعتبار به، إذ اللا حرجية في الفعل والترك تترتب على مجرد عدم الالزام بأحدهما بلا ملزم لاعتبار ذلك.
وبالجملة:
الأثر العملي العقلي المقصود ترتبه على الإباحة يترتب على مجرد عدم الالزام بأحد الطرفين وإن لم تكن الإباحة مجعولة، فيكون جعلها لغوا.
وأما ان يلتزم بتعلق الجعل بها كالوجوب والحرمة، كما هو المشهور المتداول على الألسنة من كون الأحكام التكليفية خمسة.
فعلى الأول:
لا مجال لاستصحاب عدم جعل الإباحة في الحصة الزمانية المشكوك إباحة الفعل فيها، إذ الفرض انها غير مجعولة بالمرة. فلا شك في تعلق الجعل بها وعدمه.
بل على هذا لا مجال - في الفرض - لاستصحاب المجعول وهو الإباحة، لعدم تعلق الجعل بها كي تستصحب ويتعبد ببقائها.
فيخرج المورد عن محل البحث في استصحاب الأحكام الكلية بل اما ان يرجع في الفرض إلى أصالة عدم الحكم الالزامي المشكوك ان جرت أصالة العدم - كما هو المفروض، إذ المفروض صحة استصحاب عدم الجعل -، والا فالمرجع أصالة البراءة ولا مجال للاستصحاب مع الشك في الحلية بتاتا.
وأما على الثاني:
فلا مانع من جريان أصالة عدم الجعل ومعارضتها لاستصحاب بقاء الإباحة، إذ بعد فرض كون الإباحة مجعولة فجعلها حادث لا محالة، سواء كان حدوثه في هذه الشريعة أو من السابق: فإذا شك في تحقق جعل الإباحة - في ظرفه أي زمان كان - بالنسبة إلى الزمان الخاص، فتجري أصالة عدم الجعل وتعارض استصحاب الإباحة، كما هو الحال في مورد الأحكام الإلزامية بلا فرض أصلا.
وكما يتأتى هذا الحديث في الأحكام الترخيصية التكليفية، يتأتى نظيره في الأحكام الوضعية اللا اقتضائية، كالطهارة في قبال النجاسة، فإنه إن التزم بعدم جعل الطهارة، وان حقيقة الطهارة ليست الا عدم النجاسة والقذارة، فلا مجال لاستصحاب عدم جعل الطهارة في الزمان الخاص المشكوك، بل لا مجال لاستصحاب الطهارة نفسها. وان التزم بجعل الطهارة، كان استصحاب عدم جعلها معارضا لاستصحاب بقائها بالبيان المتقدم.
بل يأتي هذا الحديث في النجاسة إذا احتمل أن لا تكون مجعولة، وانها عبارة عن عدم الطهارة. فتدبر جيدا.
وبهذا البيان تعرف ما في تقريرات بحث السيد الخوئي من الاشكال والنظر، فلا حظ تعرف ولا حاجة إلى الإطالة»[2].
[1] البهسودي، مصباح الاصول تقرير البحث السيد الخوئي، ج3، ص47 ـ 48.
[2]. الشهيد السيد عبد الصاحب الحكيم، منتقى الأصول تقرير البحث السيد محمد الروحاني، ج6، ص89 ـ 90.