بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه هفتاد و پنجم
ثم إن المجعول في باب الطرق والأمارات هي الجهة الثانية من جهات العلم، وفي باب الأصول المحرزة هي الجهة الثالثة.
وتوضيح ذلك:
هو أن المجعول في باب الأمارات نفس الطريقية والمحرزية والكاشفية، بناء على ما هو الحق عندنا: من تعلق الجعل بنفس الطريقية، لا بمنشأ انتزاعها، كما هو مختار الشيخ ( قده ) - وسيأتي إنشاء الله تفصيله في مبحث الظن - وأن تصوير ما يكون منشأ لانتزاع الطريقية في غاية الإشكال بل كاد أن يكون من المحالات. وليس المجعول في باب الأمارات هو المؤدى بحيث يتعلق حكم بالمؤدى غير ما للمؤدى من الحكم الواقعي، فان ذلك غير معقول كما سيأتي.
بل المجعول هو الطريقية والوسطية في الإثبات والكاشفية عن الواقع، أي تتميم الكاشفية بعد ما كان في الطرق والأمارات جهة كشف في حد أنفسها، غايته أن كشفها ناقص وليس ككاشفية العلم.
ومن هنا اعتبرنا في كون الشئ أمارة من أن يكون له في حد ذاته جهة كشف، والشارع في مقام الشارعية تمم كشفه وجعله محرزا للواقع و وسطا لاثباته، فكأن الشارع في عالم التشريع جعل الظن علما من حيث الكاشفية والمحرزية بلا تصرف في الواقع ولا في المؤدى، بل المؤدى بعد باق على ما هو عليه من الحكم الواقعي صادفت الأمارة للواقع أو خالفت، لأنه يكون من مصادفة الطريق أو مخالفة الطريق لذي الطريق من دون توسعة في الواقع وتنزيل شئ آخر منزلة الواقع، فان كل ذلك لم يكن، بل المجعول هو نفس الطريقية والكاشفية والمحرزية التي كان القطع واجدا لها بذاته.
والظن يكون واجدا لها بالتعبد والجعل الشرعي.
فهذا هو المجعول في باب الطرق والأمارات.
وأما المجعول في باب الأصول التنزيلية:
فهي الجهة الثالثة من العلم، وهو الجري والبناء العملي على الواقع من دون أن يكون هناك جهة كشف وطريقية، إذ ليس للشك الذي اخذ موضوعا في الأصول جهة كشف عن الواقع كما كان في الظن - فلا يمكن أن يكون المجعول في باب الأصول الطريقية والكاشفية، بل المجعول فيها هو الجري العملي والبناء على ثبوت الواقع عملا الذي كان ذلك في العلم قهريا وفي الأصول تعبديا.
ومما ذكرنا ظهر:
أن حكومة الطرق والأمارات والأصول على الأحكام الواقعية ليست الحكومة الواقعية، مثل قوله " الطواف بالبيت صلاة " وقوله " لا شك لكثير الشك " بل الحكومة الظاهرية.
والفرق بين الحكومة الواقعية والحكومة الظاهرية، هو أن الحكومة الواقعية توجب التوسعة والتضيق في الموضوع الواقعي، بحيث يتحقق هناك موضوع آخر واقعي في عرض الموضوع الأولى كما في قوله " الطواف بالبيت صلاة ".
وهذا بخلاف الحكومة الظاهرية مع ما لها من العرض العريض: من حكومة الأمارات بعضها على بعض، وحكومتها على الأصول، وحكومة الأصول بعضها على بعض، وحكومة الجميع على الأحكام الواقعية، فإنه ليس في الحكومة الظاهرية توسعة وتضييق واقعي، إلا بناء على بعض وجوه جعل المؤدى الذي يرجع إلى التصويب.
وأما بناء على المختار: من عدم جعل المؤدى وأن المجعول فيها هو الوسطية في الإثبات والكاشفية والمحرزية، فليس هناك توسعة وتضييق واقعي، وحكومتها إنما تكون باعتبار وقوعها في طريق إحراز الواقع في رتبة الجهل به، فيكون المجعول في باب الطريق والأمارات والأصول في طول الواقع لا في عرضه.
وليس للشارع حكمان: حكم واقعي وحكم ظاهري، بأن يكون تكليفان مجعولان شرعيان: أحدهما تكليف واقعي، والآخر تكليف ظاهري.
فان التكليف الظاهري بهذا المعنى مما لا نعقله.
والمراد من كون مؤديات الطرق والأصول أحكاما ظاهرية هو كونها مثبتة للواقع عند الجهل والحكم بأن مؤدياتها هو الواقع لمكان كونها محرزة له، و ليس هناك حكم آخر وراء الواقع يسمى بالحكم الظاهري، كما ربما يتخيل.
فظهر:
أن ما بين الحكومة الواقعية والحكومة الظاهرية بون بعيد، وأن حكومة الأمارات إنما تكون حكومة ظاهرية واقعة في طول الواقع وفي طريق إحرازه، ويكون المجعول فيها نفس المحرزية، والتنجيز والعذر من اللوازم العقلية المترتبة على ما هو المجعول، لوضوح أن التنجز لا يكون إلا بالوصول إلى الواقع وإحرازه، إما بنفسه ( كما في العلم والطرق والأمارات والأصول المتكفلة للتنزيل ).
وإما بطريقه ( كما في موارد جريان أصالة الاحتياط ) على ما سيأتي توضيحه في محله.
وعلى كل حال: نفس التنجيز والعذر غير قابل للجعل، كما ربما يوهمه بعض الكلمات، وإنما الذي يكون قابلا للجعل هو المحرزية والوسطية في الإثبات ليكون الواقع واصلا إلى المكلف، ويلزمه عقلا تنجيز الواقع...»[1]
ویستفاد مما حققه فی المقام امران:
الاول:
ان المجعول فی الاصول المحرزة کالاستصحاب الجری العملی والبناء علی الواقع من دون ان یکون هناک جهۀ کشف وطریقیۀ.
وعلله بأن ذلک کان لأجل انه لیس للشک الذی اخذ موضوعاً فی الاصول جهۀ کشف عن الواقع.
والحاصل ان المجعول فیها هو الجری العملی والبناء علی ثبوت الواقع فی مقام العمل فقط، وأفاد بأن ذلک انما یکون فی العلم قهریاً وفی الاصول تعبدیاً.
وقد افاد قدس سره فی تعریف الاستصحاب:
«فالاحسن تعریفه علی من أخذه من الاخبار بالحكم الشرعي ببقاء الاحراز السابق من حيث أثره وهو الجري العملي على طبقه، لا من حيث ثبوت الواقع به»[2]
کما انه افاد المحقق العراقی قدس سره فی مقام تعریف الاستصحاب:
ان مدلول ادلۀ الاستصحاب:
«وجوب المعاملۀ مع الیقین او المتیقن السابق معاملۀ بقائه من حیث الجری العملی علی طبقه.
وعلیه فإن التعبد الاستصحابی انما تعلق بالمعاملۀ مع المتیقن معاملۀ بقائه فی مقام العمل. والجری العملی.
وهذه النکتۀ انما تفید ان التعبد فی الاستصحاب حده العمل بالمتیقن او علی طبق الیقین فی مقام العمل.
وهذا یوجب الاقتصار فی الاعتبار الجائی من ناحیۀ الادلۀ علی العمل علی طبق المتیقن او الیقین بخصوصه.
وحیث انه لیس فی الاستصاب جهۀ کشف وطریقیۀ فإنه لا یمکن تصویر اعتبار لوازم المتیقن غیر الشرعیۀ، وأن اعتبار المتیقن فی مقام البقاء لا یستلزم اعتبار لوازمه غیر الشرعیۀ، لأن اعتبار هذه اللوازم یتوقف علی ثبوتها بثبوت الملزوم ای المتیقن والمستصحب والتعبد لا یقتضی اکثر من ثبوت الملزوم.
وأن اثبات اللازم به انما یتوقف علی ان یکون فی الاستصحاب جهۀ کشف وطریقیة الی الواقع ولو تعبداً لیثبت بالمستصحب جمیع لوازمه شرعیۀ کانت او غیرها کما فی الواقع. ومقام العلم والقطع به.
وتأکید المحقق النائینی قدس سره علی ان للاصول المحرزة الجهۀ الثالثۀ من الجهات المترتبۀ علی القطع وهو البناء العملی او الجری العملی انما هو للتأکید علی ان فی الاصول لیست محرزیة او کاشفیة لیثبت بها الواقع ولو تعبدا، واعتبار اللوازم غیر الشرعیۀ انما یکون من تبعات اثبات الواقع ولو تعبداً، وبما انه لیس فی الاستصحاب ای اثبات للواقع علی نحو الکاشفیۀ والطریقیة فلا یعقل اعتبار هذه اللوازم بصرف اثبات البناء علی المتیقن فی مقام العمل بالتعبد.
ضرورۀ ان هذا التعبد انما یقتصر فی اعتباره علی الحد الذی ثبت ولا یتعلق هذا التعبد الا بالجری العملی علی طبق الیقین السابق لا اکثر من ذلک.
وما مر من الشیخ قدس سره من ان لوازم المستصحب عادیاً لا یکون ثابتاً لا بالوجود الواقعی، ولا بالوجود التعبدی ناظر الی هذه المقالة. ومثله عن صاحب الکفایة قدس سرهما.
ولذلک قد مر من المحقق النائینی قدس سره ان عدم اعتبار الاصل المثبت فی الاستصحاب انما کان من جهۀ القصور فی مقام الثبوت وهو ناظر الی ما مر من عدم امکان ثبوت التعبد بصرف الجری العملی علی طبق المتیقن لشمول اعتبار لوازمه غیر الشرعیۀ.
وأن الاشکال فی عدم اعتبار الاصل المثبت فی المقام اشکال ثبوتی وأن التعبد الاستصحابی غیر قابل لاثبات اللوازم کما هو الحال فی العلم والقطع وهذا اشکال ثبوتی، ولیس الاشکال لصرف عدم شمول ادلۀ الاستصحاب لاعتباره، فإن ادلۀ الاستصحاب انما یبین ما کان فی الواقع ثبوتاً ولیس بنفسها دالاً علی عدم اعتبار الاصل المثبت مع غمض العین عن مقام الثبوت.
هذا وإن یمکن الدفاع عن الشیخ وصاحب الکفایة او توجیه کلامها بأن مرادهما من عدم تمامیة المقتضی لاعتبار الاصل المثبت بحسب الادلۀ نفس المطلب لأن هذه الادلۀ انما تحکی عن واقع الامر وهو تعلق التعبد بالجری العملی.
[1] لشيخ محمد علی الکاظمی، فوائد الاصول، تقریر البحث السید النائینی ج3، ص15 ـ20.
[2] السيد الخوئي، أجود التقريرات تقرير البحث السيد النائيني، ج2، ص343.