بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه هفتم
قال فی الکفایۀ:
«الثامن انه لا تفاوت فی الأثر المترتب على المستصحب، بين أن يكون مترتبا عليه بلا وساطة شئ.
أو بوساطة عنوان كلي ينطبق ويحمل عليه بالحمل الشائع ويتحد معه وجودا، كان منتزعا عن مرتبة ذاته، أو بملاحظة بعض عوارضه مما هو خارج المحمول لا بالضميمة.
فإن الأثر في الصورتين إنما يكون له حقيقة، حيث لا يكون بحذاء ذلك الكلي في الخارج سواه، لغيره مما كان مباينا معه، أو من أعراضه مما كان محمولا عليه بالضميمة كسواده مثلا أو بياضه.
وذلك:
لان الطبيعي إنما يوجد بعين وجود فرده، كما أن العرضي كالملكية والغصبية ونحوهما لا وجود له إلا بمعنى وجود منشأ انتزاعه.
فالفرد أو منشأ الانتزاع في الخارج هو عين ما رتب عليه الأثر، لا شئ آخر، فاستصحابه لترتيبه لا يكون بمثبت كما توهم.
وكذا لا تفاوت في الأثر المستصحب أو المترتب عليه، بين أن يكون مجعولا شرعا بنفسه كالتكليف وبعض أنحاء الوضع، أو بمنشأ انتزاعه كبعض أنحائه كالجزئية والشرطية والمانعية، فإنه أيضا مما تناله يد الجعل شرعا ويكون أمره بيد الشارع وضعا ورفعا ولو بوضع منشأ انتزاعه ورفعه.
ولا وجه لاعتبار أن يكون المترتب أو المستصحب مجعولا مستقلا كما لا يخفى، فليس استصحاب الشرط أو المانع لترتيب الشرطية أو المانعية بمثبت، كما ربما توهم بتخيل أن الشرطية أو المانعية ليست من الآثار الشرعية، بل من الأمور الانتزاعية، فافهم.
وكذا لا تفاوت في المستصحب أو المترتب بين أن يكون ثبوت الأثر ووجوده، أو نفيه وعدمه.
ضرورة: أن أمر نفيه بيد الشارع كثبوته، وعدم إطلاق الحكم على عدمه غير ضائر، إذ ليس هناك ما دل على اعتباره بعد صدق نقض اليقين بالشك برفع اليد عنه كصدقه برفعها من طرف ثبوته كما هو واضح.
فلا وجه للاشكال في الاستدلال على البراءة باستصحاب البراءة من التكليف، وعدم المنع عن الفعل بما في الرسالة:
من أن عدم استحقاق العقاب في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة الشرعية، فإن عدم استحقاق العقوبة وإن كان غير مجعول، إلا أنه لا حاجة إلى ترتيب أثر مجعول في استصحاب عدم المنع، وترتب عدم الاستحقاق مع كونه عقليا على استصحابه، إنما هو لكونه لازم مطلق عدم المنع ولو في الظاهر، فتأمل»[1].
و اما ما ذکره فی المورد الثالث:
من ترتب الأمور المجعولة بالتبع علی الاستصحاب کالأمور المجعولة بالاستقلال، فباستصحاب الشرط تترتب الشرطیة و باستصحاب المانع تترتب المانعیة، فالظاهر انه اراد بذلک دفع الاشکال المعروف فی جریان الاستصحاب فی الشرط و المانع.
بیان الاشکال:
ان الشرط بنفسه لیس مجعولاً بالجعل التشریعی، بل لا یکون قابلاً للجعل التشریعی، لکونه من الامور الخارجیة التکوینیة کالاستقبال و التستر للصلاة مثلاً، و لا یکون له اثر شرعی ایضاً، فإن جواز الدخول فی الصلاة مثلاً لیس من الآثار الشرعیة للاستقبال، بل الاحکام العقلیة، فإن المجعول الشرعی هو الامر المتعلق بالصلاة مقیّدة بالاستقبال، بحيث یکون التقیید داخلاً و القید خارجاً، و بعد تحقق هذا الجعل من الشارع، یحکم العقل بجواز الدخول فی الصلاة مع الاستقبال، و عدم جواز الدخول فیها بدونه، لحصول الامتثال معه و عدمه بدونه، و حصول الامتثال و عدمه من الاحکام العقلیة.
فلیس الشرط بنفسه مجعولاً شرعیاً و لا مما له اثر شرعی، فلا بد من الحکم بعدم جریان الاستصحاب فیه.
و کذا الکلام بعینه المانع.
فأراد صاحب الکفایة دفع هذا الاشکال:
بأن الشرطیة من المجعولات بالتبع، فلا مانع من جریان الاستصحاب فی الشرط لترتب الشرطیة علیه، لأن المجعولات بالتبع کالمجعولات بالاستقلال فی صحة ترتبها علی الاستصحاب.
اقول:
اما ما ذکره من حیث الکبری ـ من صحة جریان الاستصحاب باعتبار الأثر المجعول بالتبع فهو صحیح.
لعدم الدلیل علی اعتبار کون الأثر مجعولاً بالاستقلال.
و اما من حیث الصغری و تطبیق هذه الکلیة علی محل الکلام فغیر تام.
لأن الشرطیة لیست من آثار وجود الشرط فی الخارج کی تترتب علی استصحاب الشرط، بل هی منتزعة فی مرحلة الجعل من امر المولی بشیءٍ مقیداً بشيءٍ آخر، بحیث یکون التقید داخلاً و القید خارجاً.
فشرطیة الاستقبال للصلاة تابعة لکون الأمر بالصلاة مقیداً بالاستقبال، سواء وجد الاستقبال فی الخارج ام لا.
و علیه فلا تترتب الشرطیة علی جریان الاستصحاب فی ذات الشرط، و هذا بخلاف الحرمة و الملکیة و نحوهما من احکام التکلیفیة، و الوصفیة المترتبة علی الموجودات الخارجیة. فإذا کان فی الخارج خمر و شککنا فی انقلابه خلاً، نجری الاستصحاب فی خمریته، فنعلم بحرمته و نجاسته بلا اشکال، و ظهر بما ذکرناه:
انه لا یجری الاستصحاب فی نفس الشرطیة ایضاً، اذا شک فی بقائها لاحتمال النسخ. او لتبدل حالة من حالات المکلف، فإن الشرطیة کما عرفت مترتبة علی الأمر بالمقید، فیجری الاستصحاب فی منشأ الانتزاع، و تنتزع منه الشرطیة، فلا تصل النوبة الی جریان الاستصحاب فی نفس الشرطیّة.
هذا ، اذا قلنا بجریان الاستصحاب عند الشک فی النسخ، و فی الاحکام الکلیة، و الا فلا مجال للاستصحاب عند الشک فی بقاء الشرطیة اصلاً.
فالمتحصل مما ذکرناه:
انه لا یندفع الاشکال المعروف فی جریان الاستصحاب فی الشرط بما ذکره صاحب الکفایة.
و الذی ینبغی ان یقال فی دفعه:
ان الاشکال المذکور انما نشأ مما هو المعروف بینهم من انه یعتبر فی الاستصحاب ان یکون المستصحب بنفسه مجعولاً شرعیاً او موضوعاً لمجعول شرعی، فیتوجه حینئذ الاشکال فی جریان الاستصحاب فی الشرط، لعدم کونه مجعولاً بالجعل التشریعی و لیس له اثر جعلی.
و التحقیق فی الجواب:
انه لا ملزم لاعتبار ذلک، فإنه لم یدل علیه دلیل من آیة او روایة و انما المعتبر فی جریان الاستصحاب کون المستصحب قابلاً للتعبد.
و من الظاهر ان الحکم بوجود الشرط قابل للتعبد، و معنی التعبد به هو الاکتفاء بوجوده التعبدی و حصول الامتثال. فإن لزوم احراز الامتثال و ان کان من الاحکام العقلیة الا انه معلق علی عدم تصرف الشارع بالحکم بحصوله، کما في قاعدتی الفراغ و التجاوز، فإنه لولا حکم الشارع بجواز الاکتفاء و بما اتی به المکلف فیما اذا کان الشک بعد الفراغ؛ او بعد التجاوز، لحکم الفعل بوجوب الاعادة، لإحراز الامتثال من باب وجوب دفع الضرر المحتمل، لكنه بعد تصرف الشارع و حکمه بجواز الاکتفاء بما اتی به ارتفع موضوع حکم الفعل، لکونه مبنیّاً علی دفع الضرر المحتمل ، و لا یکون هناک احتمال ضرر، فکذا الحال فی المقام:
فإن معنی جریان الاستصحاب فی الشرط هو الاکتفاء بوجوده الاحتمالی فی مقام الامتثال بالتعبد الشرعی، فلا محذور فیه اصلاً، و تکون حال الاستصحاب حال قاعدتی الفراغ و التجاوز فی کون کل منهما تصرفاً من الشارع، غایة الأمر ان الاستصحاب لا یختص بمقام الامتثال، فیجری فی ثبوت التکلیف تارة و فی نفیه اخری، و فی مقام الامتثال ثالثة، بخلاف قاعدة الفراغ و التجاوز، فإنها مختصة بمقام الامتثال.»
هذا ما افاده السید الخوئی قدس سره فی تحقیق ما افاده صاحب الکفایة فی المقام، ثم انه فرض لما افاده صاحب الکفایة فی المقام عدم الفرق فی المستصحب بین ان یکون وجودیاً او عدمیاً ذکر صاحب الکفایة:
انه لا فرق فی المستصحب او الأثر المترتب علیه بین ان یکون ثبوت التکلیف او وجوده او نفیه و عدمه، فجريان الاستصحاب لیس منوطاً بکون المستصحب أو اثره وجودياً بل منوط بكون المستصحب او اثره قابلا للتعبد وأن يكون ثبوته ونفيه بيد الشارع.
و من المعلوم ان نفی التکلیف قابل للتعبد کثبوته، اذ نفی التکلیف و ثبوته بید الشارع، لاستواء القدرة بالنسبة الی طرفی الوجود و العدم.
ثم فرّع علی ذلک الاشکال علی شیخنا الانصاری رحمه الله فیما ذکره فی اواخر البرائة من منع الاستدلال علی البرائة باستصحابها و استصحاب عدم المنع.
اقول:
اما ما ذکره: من عدم الفرق بین کون الأثر وجودیاً او عدمیاً فصحیح، قد ذکرنا ان ما هو المعروف من اعتبار کون المستصحب حکماً شرعیاً او موضوعاً ذا اثر شرعی مما لا اساس له.
بل المعتبر فی الاستصحاب کون المستصحب قابلاً للتعبد الشرعی، بلا فرق بین کونه وجودیاً او عدمیاً، فإن نفی التکلیف بید الشارع و قابل للتعبد کثبوته.
و اما ما ذکره من الاشکال علی الشیخ فغير وارد:
لأن منع الشیخ عن الاستدلال بالاستصحاب للبرائة لیس مبنیاً علی عدم جریان الاستصحاب فی العدمی. کیف؟ و قد ذکر فی اوائل الاستصحاب فی جملة الاقوال القول بالتفصیل بین الوجودی و العدمی و ردّه بعدم الفرق بینهما من حیث شمول ادلّة الاستصحاب لهما.
بل منعه قدس سره عن استصحاب البرائة مبنی علی ما ذکره هناک من انه بعد جریان الاستصحاب اما ان یحتمل العقاب، و اما ان لا یحتمل، لکون الاستصحاب موجباً للقطع بعدم استحقاقه.
و علی الأول فلا بد فی الحکم بالبرائة من الرجوع الی قاعدة قبح العقاب بلا بیان ، فلتکن هی المرجع من اوّل الأمر بلا حاجة الی جریان الاستصحاب ، فإن الرجوع الیه حینئذ لغو محض.
و الثانی غیر صحیح، لأن عدم استحقاق العقاب لیس من الأحکام المجعولة الشرعیة حتی یصح ترتبه علی الاستصحاب، بل هو من الاحکام العقلیة، فلا یترتب علی الاستصحاب المزبور.
ثم اورد علی نفسه:
بأن استصحاب عدم المنع تترتب علیه الرخصة و الإذن.
فأجاب:
بأن المنع عن الفعل و الإذن فیه متضادان، فلا یمکن اثبات احدهما بنفی الآخر الا علی القول بالأصل المثبت، انتهی ملخصاً.
و حق الجواب عنه هو ما ذکره صاحب الکفایة فی التنبیه التاسع:
من ان عدم ترتب الاثر غیر الشرعی بالاستصحاب انما هو بالنسبة الی الآثار الواقعیة فتستصحب.
و اما اذا کانت الآثار آثاراً للأعم من الوجود الواقعی و الظاهری فلا مانع من ترتبها علی الاستصحاب.
و استحقاق العقاب و عدمه من هذا القبیل، فإنه و ان کان من الأحکام العقلیة، الا أنه اثر لمطلق عدم المنع اعم من الواقعی و الظاهری.
فإن الفعل کما یحکم بعدم استحقاق فعل ما لیس بحرام واقعاً، کذلک يحکم بعدم استحقاق العقاب بفعل ما لیس بحرام ظاهراً.
فلا مانع من ترتب عدم استحقاق العقاب علی استصحاب البرائة و عدم المنع، فإنه بعد ثبوت البرائة من التکلیف و عدم المنع من قبل الشارع عن الفعل، یحرز موضوع حکم الفعل بعدم استحقاق العقاب بالوجدان و ملخص الکلام فی المقام:
ان ما ذکره الشیخ قدس سره: من انه بعد جریان الاستصحاب اما ان یحتمل العقاب و اما ان یجزم بعدمه، مندفع باختیار الشق الثانی، فإنه بعد احراز عدم التکلیف ظاهراً بالاستصحاب، یکون عدم استحقاق العقاب محرزاً بالوجدان لتحقق موضوعه، فلا اشکال فی التمسک بالاستصحاب لاثبات البرائة.[2]
[1] الآخوند الخراساني، كفاية الاصول، ص416 ـ 417.
[2] . مصباح الاصول ،الجزء الثالث ، ص 169-176.