بسم الله الرحمن الرحيم
جلسه پنجاهم
وربما يورد عليه:
أن الكتابي لا يسلم البشارة المذكورة حتى يضره في التمسك بالاستصحاب أو لا ينفعه.
ويمكن توجيه كلامه: بأن المراد أنه إذا لم ينفع الإطلاق مع اقترانها بالبشارة، فإذا فرض قضية نبوته مهملة غير دالة إلا على مطلق النبوة، فلا ينفع الإطلاق بعد العلم بتبعية تلك الأحكام لمدة النبوة، فإنها تصير أيضا حينئذ مهملة.
ثم إنه يمكن الجواب عن الاستصحاب المذكور بوجوه:
الأول: أن المقصود من التمسك به:
إن كان الاقتناع به في العمل عند الشك، فهو - مع مخالفته للمحكي عنه من قوله: " فعليكم كذا وكذا "، فإنه ظاهر في أن غرضه الإسكات والإلزام - فاسد جدا.
لأن العمل به على تقدير تسليم جوازه غير جائز إلا بعد الفحص والبحث، و حينئذ يحصل العلم بأحد الطرفين بناء على ما ثبت: من انفتاح باب العلم في مثل هذه المسألة، كما يدل عليه النص الدال على تعذيب الكفار، والإجماع المدعى على عدم معذورية الجاهل، خصوصا في هذه المسألة، خصوصا من مثل هذا الشخص الناشئ في بلاد الإسلام. وكيف كان، فلا يبقى مجال للتمسك بالاستصحاب.
وإن أراد به الإسكات والإلزام، ففيه:
أن الاستصحاب ليس دليلا إسكاتيا، لأنه فرع الشك، وهو أمر وجداني - كالقطع - لا يلزم به أحد.
وإن أراد بيان أن مدعي ارتفاع الشريعة السابقة ونسخها محتاج إلى الاستدلال، فهو غلط، لأن مدعي البقاء في مثل المسألة - أيضا - يحتاج إلى الاستدلال عليه.
الثاني: أن اعتبار الاستصحاب إن كان من باب الأخبار، فلا ينفع الكتابي التمسك به، لأن ثبوته في شرعنا مانع عن استصحاب النبوة، وثبوته في شرعهم غير معلوم. نعم، لو ثبت ذلك من شريعتهم أمكن التمسك به، لصيرورته حكما إلهيا غير منسوخ يجب تعبد الفريقين به.
وإن كان من باب الظن، فقد عرفت - في صدر المبحث - أن حصول الظن ببقاء الحكم الشرعي الكلي ممنوع جدا، وعلى تقديره فالعمل بهذا الظن في مسألة النبوة ممنوع. وإرجاع الظن بها إلى الظن بالأحكام الكلية الثابتة في تلك الشريعة أيضا لا يجدي، لمنع الدليل على العمل بالظن، عدا دليل الانسداد الغير الجاري في المقام مع التمكن من التوقف والاحتياط في العمل. ونفي الحرج لا دليل عليه في الشريعة السابقة، خصوصا بالنسبة إلى قليل من الناس ممن لم يحصل له العلم بعد الفحص والبحث.
ودعوى:
قيام الدليل الخاص على اعتبار هذا الظن، بالتقريب الذي ذكره بعض المعاصرين (هو صاحب الفصول في الفصول ص380): من أن شرائع الأنبياء السلف وإن كانت لم تثبت على سبيل الاستمرار، لكنها في الظاهر لم تكن محدودة بزمن معين، بل بمجئ النبي اللاحق، ولا ريب أنها تستصحب ما لم تثبت نبوة اللاحق، ولولا ذلك لاختل على الأمم السابقة نظام شرائعهم، من حيث تجويزهم في كل زمان ظهور نبي ولو في الأماكن البعيدة، فلا يستقر لهم البناء على أحكامهم.
مدفوعة:
بأن استقرار الشرائع لم يكن بالاستصحاب قطعا، وإلا لزم كونهم شاكين في حقية شريعتهم ونبوة نبيهم في أكثر الأوقات لما تقدم: من أن الاستصحاب بناء على كونه من باب الظن لا يفيد الظن الشخصي في كل مورد.
وغاية ما يستفاد من بناء العقلاء في الاستصحاب، هي ترتيب الأعمال المترتبة على الدين السابق دون حقية دينهم ونبوة نبيهم التي هي من أصول الدين.
فالأظهر أن يقال:
إنهم كانوا قاطعين بحقية دينهم، من جهة بعض العلامات التي أخبرهم بها النبي السابق.
نعم، بعد ظهور النبي الجديد، الظاهر كونهم شاكين في دينهم مع بقائهم على الأعمال، وحينئذ فللمسلمين أيضا أن يطالبوا اليهود بإثبات حقية دينهم، لعدم الدليل لهم عليها، وإن كان لهم الدليل على البقاء على الأعمال في الظاهر.
الثالث: أنا لم نجزم بالمستصحب - وهي نبوة موسى أو عيسى (عليهما السلام) - إلا بإخبار نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) ونص القرآن، وحينئذ فلا معنى للاستصحاب.
ودعوى: أن النبوة موقوفة على صدق نبينا (صلى الله عليه وآله) لا على نبوته، مدفوعة:
بأنا لم نعرف صدقه إلا من حيث نبوته.
والحاصل:
أن الاستصحاب موقوف على تسالم المسلمين وغيرهم عليه، لا من جهة النص عليه في هذه الشريعة. وهو مشكل، خصوصا بالنسبة إلى عيسى (عليه السلام)، لإمكان معارضة قول النصارى بتكذيب اليهود.
الرابع:
أن مرجع النبوة المستصحبة ليس إلا إلى وجوب التدين بجميع ما جاء به ذلك النبي، وإلا فأصل صفة النبوة أمر قائم بنفس النبي (صلى الله عليه وآله)، لا معنى لاستصحابه، لعدم قابليته للارتفاع أبدا.
ولا ريب أنا قاطعون بأن من أعظم ما جاء به النبي السابق الإخبار بنبوة نبينا (صلى الله عليه وآله)، كما يشهد به الاهتمام بشأنه في قوله تعالى - حكاية عن عيسى -: * (إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) *[1] فكل ما جاء به من الأحكام فهو في الحقيقة مغيا بمجئ نبينا (صلى الله عليه وآله)، فدين عيسى (عليه السلام) المختص به عبارة عن مجموع أحكام مغياة إجمالا بمجئ نبينا (صلى الله عليه وآله)، ومن المعلوم أن الاعتراف ببقاء ذلك الدين لا يضر المسلمين فضلا عن استصحابه.
فإن أراد الكتابي دينا غير هذه الجملة المغياة إجمالا بالبشارة المذكورة، فنحن منكرون له، وإن أراد هذه الجملة، فهو عين مذهب المسلمين، وفي الحقيقة بعد كون أحكامهم مغياة لا رفع حقيقة، ومعنى النسخ انتهاء مدة الحكم المعلومة إجمالا.
فإن قلت:
لعل مناظرة الكتابي في تحقق الغاية المعلومة، وأن الشخص الجائي هو المبشر به أم لا، فيصح تمسكه بالاستصحاب.
قلت:
المسلم هو الدين المغيا بمجئ هذا الشخص الخاص، لا بمجئ موصوف كلي حتى يتكلم في انطباقه على هذا الشخص، ويتمسك بالاستصحاب.
الخامس: أن يقال:
إنا - معاشر المسلمين - لما علمنا أن النبي السالف أخبر بمجئ نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن ذلك كان واجبا عليه، ووجوب الإقرار به والإيمان به متوقف على تبليغ ذلك إلى رعيته، صح لنا أن نقول: إن المسلم نبوة النبي السالف على تقدير تبليغ نبوة نبينا (صلى الله عليه وآله)، والنبوة التقديرية لا يضرنا ولا ينفعهم في بقاء شريعتهم.
ولعل هذا الجواب يرجع إلى ما ذكره الإمام أبو الحسن الرضا صلوات الله عليه في جواب الجاثليق، حيث قال له (عليه السلام):
ما تقول في نبوة عيسى وكتابه، هل تنكر منهما شيئا؟
قال (عليه السلام): أنا مقر بنبوة عيسى وكتابه وما بشر به أمته وأقرت به الحواريون، وكافر بنبوة كل عيسى لم يقر بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله) وكتابه ولم يبشر به أمته.
ثم قال الجاثليق: أليس تقطع الأحكام بشاهدي عدل؟
قال (عليه السلام): بلى.
قال الجاثليق: فأقم شاهدين عدلين - من غير أهل ملتك - على نبوة محمد (صلى الله عليه وآله) ممن لا تنكره النصرانية، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا.
قال (عليه السلام): الآن جئت بالنصفة يا نصراني.
ثم ذكر (عليه السلام) إخبار خواص عيسى (عليه السلام) بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله).
ولا يخفى: أن الإقرار بنبوة عيسى (عليه السلام) وكتابه وما بشر به أمته لا يكون حاسما لكلام الجاثليق، إلا إذا أريد المجموع من حيث المجموع، بجعل الإقرار بعيسى (عليه السلام) مرتبطا بتقدير بشارته المذكورة.
ويشهد له :
قوله (عليه السلام) بعد ذلك: " كافر بنبوة كل عيسى لم يقر ولم يبشر "، فإن هذا في قوة مفهوم التعليق المستفاد من الكلام السابق.
وأما التزامه (عليه السلام) بالبينة على دعواه، فلا يدل على تسليمه الاستصحاب وصيرورته مثبتا بمجرد ذلك، بل لأنه (عليه السلام) من أول المناظرة ملتزم بالإثبات، وإلا فالظاهر المؤيد بقول الجاثليق: " وسلنا مثل ذلك " كون كل منهما مدعيا، إلا أن يريد الجاثليق ببينته نفس الإمام وغيره من المسلمين المعترفين بنبوة عيسى (عليه السلام)، إذ لا بينة له ممن لا ينكره المسلمون سوى ذلك، فافهم. » [2]
[2]. الرسائل ، جلد 3 ، ص 259 ـ 272 .